امرأة لكل يوم
لو أحببتُ أن أكتب عن يوم المرأة العالمي، فلن أكتُب بالطبع، وإطلاقاً لن يحدُث ذلك، عن أسباب تحديد يوم الثامن من مارس/ آذار من كلّ عام يوماً عالميا للمرأة ... ففي عام 1856، خرجت آلاف النساء للاحتجاج على أوضاعهن المأساوية في الولايات المتحدة، وفي 8 مارس/ آذار عام 1908 خرجت آلاف من عاملات النسيج في المصانع للتظاهر في شوارع نيويورك لخفض ساعات العمل، وسمّي هذا اليوم باسم "خبز وورد" حيث خرجت النساء للاحتجاج وهنّ يحملن الخبز اليابس والورود.
لا أريد ان أكتب عن هذا التاريخ الذي يكتب عنه الجميع، ولكني أريد أن أكتب عن امرأةٍ منسيةٍ تستحقّ أن يُحتفى بها كل يوم، لأنها امرأة كل يوم وقائدة كلّ ساعة، وربّان سفينة الليل والنهار، ففي ساعات الفجر، تخرُج من بيتها المبنيّ من دموعٍ وحجرٍ متآكل، فتجمع الأكياس الورقية الخشنة الممزّقة، والتي تركها عمّال البناء، وكانت تحوى في داخلها الإسمنت، فهم يمزقونها كما يمزّقون ساعاتهم لكي ينتهوا من عملهم المُضني والمنهك، ويتركون تلك الأغلفة على الطريق تتقاذفها الرياح وتنتظر يدي تلك المرأة المرتعشتين، حيث تجمعها وتعود بها إلى مدخل البيت، فتشعل بها نارا تستدفئ بها أولا، وتشيع بعض الحرارة في أوصالها المرتعدة، ثم تبدأ في إعداد ما تيسّر من طعام فوقها، وحيث توقظ أولادها، لكي يستعدّوا للذهاب إلى مدارسهم وجامعاتهم، وتخصّ ابنتها التي تدرس في كلية الطب، وتطلق عليها لقب "دكتورة"، كما يفعل كل البسطاء مع أولادهم، وحيث يمنحونهم ألقابهم بمجرّد أن يلتحق أحدهم بكلية الطب أو الهندسة، تخصّها بقطعةٍ أكبر من الجبن الأبيض الذي أعدّته من حليب ضرع الماعز الوحيدة بارزة العظام، والتي لا تتوقف عن إطلاق غثاء الشكوى، ولم تتعلّم الصمت والصبر مثل هذه المرأة.
هذه المرأة التي قرّرت أن تعيل أولادها بعد رحيل الأب، والذي فعل ذلك مثل كل الآباء الفقراء الذين يرحلون في هدوء، ولكنهم يرحلون رحيلا أبديا، فتتوجّه أيضا إلى مزرعة قريبة، لتعمل في قطف ثمار الخيار والطماطم وجمعها، وحيث يقرّر صاحب المزرعة أن يستغلّها بأقسى صور الاستغلال، لأنه يعرف أن لا بدائل ولا حلول لديها سوى أن تحنى ظهرها حتى مغيب الشمس في مزرعته الواسعة، فيمنحها القليل من القروش، لكي تعود بها إلى البيت المبني بالدموع والحجارة مهشّمة الأطراف.
ليست هذه المرأة من نسج الخيال، فهي امرأة كل يوم، والتي أصادفها في طريقي، والتي أعرفها جيدا وأقرأ قصتها من شقوق يديها وذبول عينيها وشحوب بشرة وجهها. لا تتكلم ولا تشكو ولا تحمل الخبز اليابس ولا الورد الأصفر النامي على الطريق الترابي، والذي تدوسه أقدام من يمرّون منه، ولا يشعرون كيف ينحني متألما ثم يذبل ويموت، مثلما يحدث معها تماما، فهي تداس وتتألم، وتميل ولا أحد يعرف متى ستقع للمرّة الأخيرة. .. هذه امرأة كل يوم التي أعرفها وأحبّها، وأحبّ امرأة مثلها طواها الثرى، كانت تفعل ذلك كله في صمت وحبّ وترتق الأيام ولا تشكو.
وفي حياتي وفي ثنايا قلبي امرأة ثالثة، هي امرأة لكل يوم أيضاً، فهي كانت تهيئ الحياة، وكأنها ترتع في رغد العيش، ولا أحد يرى ثقوب جوربها، ولا اهتراء قطعة ملابسها الداخلية الشفّافة، والتي يخفيها معطفها السميك الوحيد، والذي يظنّه الجميع جديدا باهظ الثمن، ولا أحد يعرف أنها قد خاطته بيديها، وبأنه يستُر حياة قاسية تعيشها. ورغم ذلك هي راضية وماهرة حتى آخر نوبةٍ لارتفاع السكّر في دمها.
أعترف بتقصيري مع هاته النساء الثلاث، لأني لم أحمل لقبر اثنتين وليدي الثالثة باقة ورد في يوم المرأة العالمي، ولم أقف لكي أتحدّث عنهن فوق أحد المنابر الإلكترونية التي أكتب لها دائما، وأنا أتشدّق بأنّ النساء شريكاتٌ فاعلاتٌ كالرجل، قصّرت معهن كما قصّر الجميع، وعدتُ لأكرّر كلاماً ممجوجاً عن عاملات المصانع الأميركيات.