اليَمينُ العَفِنُ

30 مايو 2014

مارلين لوبين من أبرز وجوه اليمين الفرنسي(مايو 2014 Getty)

+ الخط -
إن مَنْ يقرأ تاريخ اليمين الفرنسي بعد الحرب الكونية الثانية، ويستحضر قاماتٍ كبرى، مثل الجنرال شارل ديغول، ثم يرى هذا الجيل الجديد من القادة الذين يدّعون قرابةً مع فكره، يُصيبه نوعٍ من الصدمة والغثيان. ديغول قال: "لا" للنازية، وقاومها بروح وطنية، تستحق الإعجاب، واستطاع أن يتفهم مأساة الشعب الجزائري، ويقرر تفكيك الاستعمار في استفتاء شعبي، انتصر فيه الشعب الجزائري، كما أنه تجرأ ووصف إسرائيل بـ" شعبٍ من النُّخَب ومُهيْمِن".

فرق كبير بين ديغول وساركوزي، الأول عاشق كبير للكتب والثقافة، تحدّث عن الفيلسوف جان بول سارتر وقال عنه، بعد مصادماتٍ ومواقف متعارضة، "لا يُمكن لأمّة عظيمةٍ كفرنسا أن تسجن فيلسوفاً كبيراً كسارتر". والثاني لا يُفوّت أي فرصة، إلا ويحتقر فيها الثقافة، ويكشف فيها عن سطحيته وعن كتّابه المحببين.

كان ديغول يُصرّ على احترام الأموال العامة، ويدفع ثمن استخدام أبنائه الكهرباء من جيبه الخاص، بينما لا يتورع تلامذته، أو الذين يدعون أبوته، عن التلاعب بالمال العام، وكأنهم ورثوه عن أجدادهم. كان ديغول يتذمر من الحديث عن الأموال، بينما يفتخر "ورثته" بتكديس الثروات، فيما لا يتورع ساركوزي عن امتداح أصدقائه من الأثرياء ورجال الأعمال. وكان ديغول يفتخر بالمكانة المهمة التي منحها لبلده وسيادته الوطنية، وهو ينسحب من القيادة العسكرية لحلف الأطلسي، وها هو ساركوزي الأطلسي الصغير يعود إلى الحلف، من دون أن يضمن لفرنسا أي دور وتأثير، ولا فيتو على قرارات الأطلسي.

نحن القادمين من الشرق الذي يبدو لكثيرين مستبدّاً، كنا لا نتحدث عن اليمين، إلا ونضيف إليه توصيف "العفن"، وطال استخدامنا هذا المصطلح، ولكننا لم نكتشف عفونة اليمين الحقيقية إلا في أوروبا.

لقد أظهرت الانتخابات الأوروبية، قبل أيام، العفنَ الأوروبي في كل بلدان الاتحاد، بلا استثناء، وكأنّ أوروبا تَطوي صفحة ناصعة من تاريخها في التنوير والتسامح والانفتاح على الآخَر المختلف، وتُظهر كل ما كان مُخبَّأً من العنصرية، واحتقار غير الأوروبيين. لكأن هذه القارة الجديدة خارجةٌ للتوّ من القرون الوسطى، ومن الحروب الصليبية.

من كان يتصوّر أن تَشهد فرنسا، بلد الحرية والأنوار وحقوق الإنسان والمواطن، وصول شخصٍ، مثل ساركوزي، إلى سدة الحكم. شخص لا يخفي اعتزازه بجهله الثقافي فحسب، بل ويسخر من مونتسكيو وستاندال وديكارت وبلزاك.

كانت فرنسا دائماً تفتخر بثقافتها، ويكفي أن نقرأ، أو نسمع، ساستها القدامى المُفوَّهين والكارزميين، لنعرف أن خيانة الثقافة تعني خيانة حقيقة لروح هذا البلد. ولن نوغل بعيداً في تاريخ فرنسا، حتى نكتشف آخِر اليمينيين الكبار فيها، ومنهم جاك شيراك وريمون بار وفيليب سوغان، كانوا يمتلكون حِسّ المسؤولية والجرأة على الموقف، وإن كان صادماً لكثيرين، وخصوصاً للإسرائيليين.

أيّ حظ وصلت إليه فرنسا، هذه الأيام، مع وصول فرانسوا كوبيه ومانويل فالس ومارلين لوبين وأمثالهم إلى صدارة المشهد السياسي؟

فرنسا ليست بخير. والدليل على هذه الحقيقة الصورةُ التي أصبحت تمتلكها في أوروبا. "الرجل المريض"، الذي لم يعد له التأثير نفسه أيام ديغول، والذي أصبح، اليوم، يحتمي بالقوة الألمانية. "فرنسا بلد يميني"، هذا ما قاله فرانسوا ميتران، معتبراً انتصاره، وهو الاشتراكي، "حدثاً" في التاريخ لا يتكرر كثيراً. لهذا، فليس غريباً أن تكون سياسة "الاشتراكي"، فرانسوا هولاند، يمينية. وليس غريباً أن ينتصر اليمين في فرنسا، لكنه يمينٌ عفن، لا يُذكِّرُنا إلا بقارعي طبول الحروب الصليبية، ولكن أولئك كانت لهم، على الأقل، جرأةُ تخطيط الحروب وشنّها، أمّا أحفادهم، هذه المرة، فليست لهم قوة سوى شحذ سيوف دونكيشوتية خشبية. ليسوا سوى أبطالٍ إشكاليين، يدافعون عن قضايا تتجاوزهم وبوسائل غير مناسبة.

أيّ منظر أفظع من هذا اليمين الفرنسي، وهو يكشف وَجْهَيه غير المتناقضين، وجه العنصرية القاتلة مع مارلين لوبين، التي ترى خطر الأجانب والإسلام في كل مكان، وهي تطرُدُ نائبة لها فازتْ في الانتخابات الأخيرة، لأنها تجرأت على إظهار دعمها حقّ الأجانب، الذين يدفعون الضرائب، في المشاركة في الانتخابات البلدية، ووجه اليمين التقليدي، الذي هو بصدد التحرر من "عُقَدِه"، بكل ما يتضمنه هذا التحرر من تحميل الأجنبي كلّ شرور فرنسا، وهو يُخرِج فضائِحَه الماليّة القذرة للشعب الفرنسي.

تحَالَف ديغول اليميني الاجتماعي مع الشيوعيين الفرنسيين، لمحاربة النازية وتحرير فرنسا، بينما يتحالف "ورثَة" ديغول مع اليمين المتطرف الفخور بالعنصرية، مُبرِّرين الأمرَ بأن حزب "الجبهة الوطنية" العنصري ليس له الحق في احتكار أفكاره. أي أن "المعاني معروضةٌ في الطريق"، كما قال الجاحظ يوماً.       
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد
بشير البكر
شاعر وكاتب سوري.
بشير البكر