اليمين الإسرائيلي المتطرّف رديف للسياسات الرسمية
يوفّر القانون الإسرائيلي لأعضاء البرلمان (الكنيست) حصانة واسعة، تمكنهم من دخول أماكن وزيارة مناطق يحظرعلى الجمهور العادي دخولها. يستفيد هؤلاء من هذه الحصانة في تعزيز قدراتهم الرقابية على أداء الحكومة، أو لتنفيذ أجنداتهم الخاصة كما يفعل النواب العرب، حين يستغلون هذه الميزة في زيارة السجون واللقاء بالأسرى الفلسطينيين الذين يخضعون لعقوباتٍ قاسية، كالعزل أو الحرمان من زيارة المحامين والأهل. أما نواب اليمين المتشدّد، فيستثمرون الحصانة في تنفيذ برامج الجماعات الاستيطانية المتطرّفة، مثل اقتحام المسجد الأقصى، أو القيام بزيارات استفزازية للبلدات العربية تحت حماية الشرطة.
بعد انتهاء الاحتفالات اليهودية بعيد الفصح، وما رافقها من اقتحامات استفزازية للحرم القدسي الشريف، منعت الحكومة الإسرائيلية النائب اليميني المتطرّف، إيتامار بن غفير (46 عاما)، من تنفيذ مسيرة الأعلام الاستفزازية وقيادتها في محيط البلدة القديمة من مدينة القدس، وسط الشوارع والأحياء العربية الفلسطينية، وذلك لتخفيف حدّة الاحتكاك مع الفلسطينيين في العشر الأواخر من رمضان، وللحيلولة دون وقوع تصعيد خطير قد يؤدّي إلى إعادة توحيد الساحات الفلسطينية، وتحديدا قطاع غزة بمقاومته المسلحة والداخل المحتل عام 1948 بجماهيره التي تعيش وسط الإسرائيليين، كما أن حكومة بينت – لبيد الضعيفة، لا تريد لهذا النائب المعارض أن يفرض على إسرائيل أجنداتها الوطنية والأمنية، ويورّطها في مواجهاتٍ غير محسوبة قد تطيح هذه الحكومة، وبما يصبّ في مصلحة المعارضة، بزعامة رئيس حزب الليكود ورئيس الوزراء السابق، بنيامين نتنياهو.
لم يسلّم بن غفير بمنعه، وشنّ حملة شعواء على الحكومة وأجهزتها، وتحديدا ضد رئيس المخابرات العامة (الشاباك)، أمنون بار، وعقب ذلك أصدر جهاز الشاباك بيانا استثنائيا، نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت فجر 30/4/2022، معللا منع بن غفير من الوصول إلى منطقة باب العامود، بـ"توفر معلومات استخبارية مؤكّدة تفيد بأن مثل هذه الزيارة تلحق أذى بليغا بأمن دولة إسرائيل ومواطنيها". وقد برز اسم هذا النائب الإسرائيلي خلال المواجهات أخيرا في القدس والمسجد الأقصى، كما برز خلال مواجهات مايو/ أيار من العام الماضي، حيث افتتح مكتبا في حي الشيخ جرّاح متزعما مجموعات المستوطنين في محاولاتها إخلاء سكان الحي الفلسطينيين.
الحردلية اتجاه يدمج القومية الصهيونية المتشدّدة بما يناسبها من نبوءات ورؤى دينية منتقاة
وبن غفير هذا هو زعيم حزب "قوة يهودية"، وسليل منظمة كاخ، الأكثر تطرّفا في تاريخ إسرائيل التي أسّسها الحاخام مائير كهانا، وبعد مقتل مؤسسها عام 1990، جرى حظرها قانونيا في 1994، فاتخذت لنفسها أسماء مختلفة في كل مرّة، وحافظت على حضورها الميداني من دون التمثيل البرلماني. وتمكّنت هذه الجماعة من انتزاع شرعية وجودها السياسي، وأن تتمثل مجدّدا في البرلمان بعد فشلها عدة مرّات، على أثر الجهود الاستثنائية التي بذلها نتنياهو في توحيد ثلاث جماعات متطرّفة هي تكوما وقوة يهودية ونوعام، وقد حصل هذا الحزب الموحد، واسمه الصهيونية الدينية، على ستة مقاعد في انتخابات مارس/ آذار 2021، لكنه بقي في صفوف المعارضة.
وقد سبّبت مواقف بن غفير، وكذا سلوكه العدواني وتبنّيه الصريح العنف، حرجا كثيرا للحكومة وأجهزتها الأمنية، ما استدعى منعه من القيام بمسيرة الأعلام، والتي هي أشبه ما تكون بمسيرة احتفالية يقوم بها غلاة المتطرّفين الإسرائيليين اليهود في ضواحي القدس الشرقية لمناسبة يوم القدس وفق التقويم العبري، أي احتفاء بـ"تحريرها" من العرب!
وقبل الخوض في خلفيات هذا النائب، يجدر إبداء الحذر، لأن من شأن حصر صفة التطرّف في بن غفير، وفي من هم على شاكلته، أن يُظهر بنيامين نتنياهو ونفتالي بينت سِياسِيَّيْن مُعتدلَيْن، مع أن الأخير لا يختلف كثيرا في مواقفه السياسية والأيديولوجية عن بن غفير، فكلاهما يرفض منح أية حقوق سياسية للفلسطينيين، ويدعم التسريع في تهويد مدينة القدس، وهما يستندان إلى قاعدة انتخابية واحدة، هي جمهور المستوطنين في الضفة الغربية، بما فيها القدس، ويؤيدان الاستيطان من دون قيود أو شروط. ولعل الفرق الرئيسي بين يمينية نتنياهو وبينت من جهة ويمينية بن غفير من جهة مقابلة، أن الفريق الأول يستخدم أدوات الدولة وجيشها وقوانينها وأجهزتها لتنفيذ مخططاته، بينما الثاني لا يعبأ بأية قوانين محلية أو دولية. ويشبه هذا الفارق، إلى حد كبير، الفارق بين المستوطنات القانونية وغير القانونية، الأولى أقرّتها الحكومة والثانية بناها المستوطنون على عاتقهم.
تتبنّى الجماعات "الحردلية" العنف ضد الفلسطينيين فكراً وممارسة، وتشرّع سرقة أراضيهم والسيطرة عليها
عرفت إسرائيل، عبر تاريخها، انقساما تقليديا بين قوى اليسار الصهيوني الذي مثله، بشكل خاص، حزبا مباي ومبام، ولاحقا حزبا العمل وميريتس، وبين قوى اليمين بقيادة حزبها الأبرز (الليكود). وإلى جانب هذين المعسكرين الرئيسيين، وجدت أحزاب المتدينين المتزمتين المعروفين بـ "الحريديم" التي غالبا ما تحالفت مع الحزب الحاكم. ودائما وُجدت على يمين حزب الليكود أحزابٌ أكثر تطرّفا في موقفها من العرب والفلسطينيين. تبدّلت هذه الأحزاب وتغيرت قياداتها، لكنها شكلت دائما رديفا داعما وحليفا ثابتا لحزب الليكود، ومن بينها أحزاب النهضة (تكوما) برئاسة غيؤولا كوهين، و"تسومت" برئاسة رفائيل ايتان، و"موليديت" بزعامة داعية الترانسفير رحبعام زئيفي. وخلال العقدين الأخيرين، بدأت تتبلور مجموعات تمثل اتجاها سياسيا جديدا آخذا في النمو يسميه بعضهم "الحردلية"، بنحت ومزج كلمتين عبريتين، معناهما الدينية الوطنية. وهو اتجاه يدمج القومية الصهيونية المتشدّدة بما يناسبها من نبوءات ورؤى دينية منتقاة، يقود ذلك إلى وجود مجموعات سياسية واسعة التأثير، وتتصرّف في سلوكها اليومي وكأنها لم تنته بعد من معركة تحرّرها الوطني ضد "الاحتلال" العربي والفلسطيني لأرض إسرائيل.
تتبنّى هذه الجماعات "الحردلية" العنف ضد الفلسطينيين فكرا وممارسة، وتشرّع سرقة أراضيهم والسيطرة عليها بالقوة، لكونها هبةً من الربّ لليهود وحدهم. وإذا كانت هذه الجماعات في الماضي تسبّب بعض الحرج لحكومات إسرائيل، فإنها، ومع انزياح إسرائيل برمتها نحو اليمين واليمين المتطرّف، باتت جزءا رئيسيا من الخريطة السياسية، ولا ينحصر وجود هذا الاتجاه باليمينيين يمينا والصهيونية الدينية، بل يمتد إلى داخل حزب الليكود وأمل جديد برئاسة جدعون ساعر، وحتى إلى حزب يسرائيل بيتينو ذي المنحى العلماني الواضح.
شكّلت هذه القوى "الحردلية" من خلال اندماجها مع الحركات غير الحزبية التي تشاطرها المواقف والآراء، مثل الجماعات الاستيطانية وجماعات بناء الهيكل وبعض الجمعيات ذات الصبغة الاجتماعية أو الدينية، رديفا دائما للحكومات الإسرائيلية، وأداة بيد هذه الأخيرة لتنفيذ المخطّطات الاستيطانية، كما وفّرت هذه الجماعات ذريعةً دائمة تستخدمها الحكومات المتعاقبة، للتملص من تقديم أية تنازلاتٍ بحجّة الخشية من احتجاجات المتطرّفين.