اليمن في أجندات الدورين المصري والتركي بالقرن الأفريقي
مثلت عودة العلاقات التركية المصرية، التي جرت على مراحل خلال العامين السابقين، بداية مرحلة جديدة من التعاون الاستراتيجي بين البلدين المهمين على الساحة الإقليمية. وبخلاف مجالات التعاون الأمنية والعسكرية والاقتصادية، كان العامل الجيوسياسي الأهم في اتفاق الطرفين بعد أكثر من عشر سنوات من القطيعة. ولهذا العامل المهم في عودة العلاقات بين البلدين اتجاهان أو منطقتا التقاء: الأولى، شرق المتوسط الساكنة حاليّاً، والثانية منطقة القرن الأفريقي المتفاعلة، والتي تتحضر فيها أطراف إقليمية، ودولية وجماعات مسلحة لدورة من العنف قد تندلع في أية لحظة.
كانت الترتيبات الإثيوبية للاعتراف بأرض الصومال (الإقليم المنفصل عن الدولة الصومالية) مقابل الحصول على ميناء وقاعدة عسكرية للدولة الإثيوبية الحبيسة، بمثابة إعلان دخول منطقة القرن الإفريقي برمتها في مرحلة من تأزّم العلاقات، والاحتشاد العسكري من كل الأطراف، عطفاً على رفض الصومال هذا الإعلان وذهابها، في المقابل، إلى توقيع اتفاقية دفاع مشترك مع كل من مصر، العائدة بقوة إلى إحياء عمقها وإرثها الإفريقي وتركيا التي تمتلك فعلياً قاعدة عسكرية في الصومال وحقوق استكشاف وحماية للسواحل الصومالية.
ومن ثم، بات للقاهرة وأنقرة مشترك للتحرّك الموحد من خلاله، وهو التعهد بحماية السيادة الصومالية مع مقاربة خاصة لكل طرفٍ تتعلق بمصالحه الاستراتيجية المستقلة، ودوافعه الأمنية والجيوسياسية، وتفضيلاته لأدوات الحل إن كانت السياسية "الناعمة" أو التي تفرضها ديناميكية الصراع وتفاعلاته، أي إن القاهرة منفتحة على كل الخيارات، وهذا لا يعني أنها لا تفضل الوفاء بتعهّداتها، وتحقيق أهدافها الاستراتيجية من دون التورط في حرب، بأفق مفتوح على كل الاحتمالات بل العكس تماماً، لكنها تبدي رغبة أكثر في التفاعل مع كل الخيارات التي تقتضيها الأزمة الصومالية الإثيوبية، والشواهد على ذلك كثيرة، واحد منها إرسال القاهرة شحنتي مساعدات عسكرية إلى الصومال، الأولى عبر طائرات النقل العسكري سي 130 في 28 أغسطس/ آب الماضي.
والثانية من خلال سفينة الحاويات الحرية 2 التي وصلت إلى الموانئ الصومالية رفقة "الكورفيت بورسعيد" في 24 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، وهو الأمر الذي جوبه بتصعيد إثيوبي مقابل تمثل بإرسال أسلحة من إثيوبيا إلى إقليم بوتلاند (أرض النبض) الصومالي ذي النزعة الاستقلالية، سيطرت القوات الإثيوبية الموجودة ضمن مهمة...على المطارات الثلاثة في إقليم "غيدو" جنوب الصومال والمطارات الثلاثة هي لوق، ودولو، وبارديري.
استمرّت التفاعلات في هذا المنحى بإعلان وزير الخارجية الصومالي، أحمد معلم فقي، أن بلاده قد تفتح قنوات اتصال مع الحركات الإثيوبية ذات النزعة الانفصالية في حال أصرّت الأخيرة على مواصلة اتفاقها مع إقليم أرض الصومال، يأتي ذلك بالتوازي مع فشل أنقرة جمعها الصومال وإثيوبيا في جولة مفاوضات، رغم محاولاتها المستمرّة بحسب تأكيدات الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، في حوار أجراه أخيراً مع قناة الجزيرة مباشر. والواقع أن هذه المفاوضات متوقفة عند اشتراط الصومال تراجع إثيوبيا عن توقيعها اتفاقية التفاهماتها الإطارية مع "صومالي لاند"، وهو ما لم يقبل به الطرف الإثيوبي، مع تأكيدات من رئيس الإقليم الصومالي المنفصل لقناة العربية أن التفاهمات حول الاتفاقية الإطارية ماضية من أديس أبابا التي تجهز لإعلانها، واتهامه القاهرة بالوقوف ضد تطلعات شعب إقليم أرض الصومال، على حد وصفه.
تصاعد هذا التفاعل بين أديس أبابا وإقليم أرض الصومال من جهة وبين القاهرة ومقديشو من جهة أخرى في الأسابيع الماضية بإعلان هرجيسا (عاصمة الإقليم الصومالي غير المعترف به) إغلاق المكتبة المصرية في هرجيسا، ودعوة القاهرة رعاياها إلى مغادرة الإقليم بأسرع وقت وبأي وسائل متاحة، مضافاً إلى كل هذه التفاعلات اتهام أديس أبابا أسمرة أنها تقدّم دعماً عسكرياً لمليشيات الفانو أمهرة التي تشن حرباً على الحكومة الاتحادية الإثيوبية واستطاعت خلال الأيام والأسابيع الماضية السيطرة على مدن عديدة في الحدود مع السودان، وتواتر أخبار عن قرب إعلان اتفاقية دفاع مشترك بين مصر وإريتريا بعد الزيارة المعلنة لرئيس جهاز المخابرات المصرية رفقة وزير الخارجية في سبتمبر/ أيلول الماضي.
بات للقاهرة وأنقرة مشترك للتحرّك الموحد من خلاله، وهو التعهد بحماية السيادة الصومالية مع مقاربة خاصة لكل طرفٍ تتعلق بمصالحه الاستراتيجية المستقلة
في مقابل هذه التمترسات تحاول أنقرة تحقيق أي اختراق تسحب به الأطراف إلى طاولات المفاوضات والحلول السلمية، وعليها تحقيق ذلك الاختراق، قبل نهاية العام الجاري، لأن الأوضاع هناك مرهونة بقرار القوات الإثيوبية الموجودة ضمن المهمّة الأفريقية لحفظ السلام، والتي ستنتهي فترتها في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، بعد أن طلبت الصومال استبدالها بقوات مصرية.
كل هذه التفاعلات والاحتشاد يجري على الضفة المقابلة من خليج عدن والبحر الأحمر الذي أصبح خلال الأشهر الماضية من أهم مرتكزات الصراع الإقليمية والدولية، ونقاطه الساخنة، نتيجة الاستهدافات الحوثية للملاحة البحرية في واحد من أهم خطوط الملاحة الدولية، وفي أعمق نقطة للأمن القومي والجيوسياسي المصري مضيق باب المندب. وهنا يبدو أن للقاهرة تحدّياً استراتيجياً في المنطقة الحيوية نفسها، يتهدّد التأثير على ثقلها الجيواستراتيجي، وموردها الاقتصادي الأهم والثابت قناة السويس.
بحسب تصريحات للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 29 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، فقدت القناة 60% من حركتها الملاحية، أي ما يزيد عن ست مليارات دولار خلال العشرة الأشهر الماضية من عمر الهجمات الحوثية، التي عنونتها "معركة إسناد المقاومة في غزّة "، وهذا يجعل القاهرة منهمكة، سواء شاءت أم لم تشأ، في صراعاتٍ عديدة تتجاذب حدودها الجيوسياسية وتهدد وجودها المادي والحضاري أكان ذلك محرّكه سد النهضة الإثيوبي الذي يستهدف الوجود المادي والحضاري للدولة المصرية باعتبارها "هبة النيل". أو الهجمات الحوثية التي تخل بالتوازن الإقليمي لصالح إيران، وتؤثر على عمقها الجيوسياسي والاقتصادي المتمثل بقناة السويس، وهنا نجد أن القاهرة مدفوعة بمسار إجباري تفرضه التحديات الأمنية ومنطق الجغرافيا نحو التشابك مع اليمن ودول القرن الأفريقي، وفق مقاربة مصرية خالصة.
وفي ما يخصّ التحدّي الأمني القادم من اليمن عبر جماعة الحوثيين وتحويلها البحر الأحمر إلى نقطة اشتباك عسكري، كانت المقاربة المصرية واضحة ومحاصرة أيضاً، فقد رفضت الانخراط في المهمّة الأميركية البريطانية "تحالف الازدهار" لحماية الملاحة البحرية، ورأت أن الحل يبدأ بإيقاف الحرب الإسرائيلية على غزّة وتهدئة التوترات الإقليمية، وظلّ هذا الموقف ثابتاً من دون انتهاج أساليب خاصة للتعامل مع آثاره، رغم أنها أكثر الأطراف تضرراً على الإطلاق، وهذا يعود إلى سببين رئيسيين: الأول: أن الملف اليمني، ومنذ بدء الأزمة، كان سعودياً إماراتيّاً خالصاً، بفعل اندفاع الطرفين الخليجيين، في الحرب اليمنية، لأسباب جغرافية في ما يخص السعودية، وجيوسياسة في ما يخص الإمارات. أما القاهرة حينها فكانت منشغلة بتحدّيات داخلية كثيرة مثل الوضع الاقتصادي، وملف الحرب على الإرهاب في شبه جزيرة سيناء.
يدير الحوثيون أسواق السلاح في القرن الأفريقي، وينسقون مع القراصنة في الصومال لشنّ هجمات موحّدة ضد السفن التجارية
والثاني: ربط الحوثيون ما بين هجماتهم في البحر الأحمر والحرب الإسرائيلية على غزّة، ومن ثم، كان من الصعب على أي دولة عربية إبداء أي رغبة في الانخراط في مجابهة عسكرية ضد هجمات الحوثيين، مهما كانت متضرّرة لأنها ستواجه مأزقاً أخلاقياً، ولأنها تدرك يقيناً أنه لا بد، أولاً، من إيقاف الحرب الكبيرة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزّة. وتحمّل المقاربة التركية أيضاً المضامين والمنطلقات ذاتها، وإن كانت أقل تضرّراً من الناحيتين الاقتصادية والجيوسياسية. لكن اتجاه القاهرة أخيراً نحو الصومال ودول القرن الأفريقي بفعل التحدّيات التي فرضتها إثيوبيا، وبمقتضى اتفاقية الدفاع المشترك مع الصومال، جعلت القاهرة تعيد النظر في علاقتها بالأزمة اليمنية وتداعياتها لاعتبارات عديدة. منها أن القاهرة تخطّط لانخراط واسع في الصومال التي تقع في نطاق جغرافي واحد مع اليمن، ومن ثم ربما تسعى القاهرة إلى إيجاد تفاهمات مع الحوثيين، تؤمن من خلاله المسرح العملياتي، وخط الحركة والإمداد في البحر الأحمر وخليج عدن، ولذلك رشحت أنباء أخيراً عن ترتيبات تجريها القاهرة لعقد جولة مفاوضات بين الحوثيين والمجلس الانتقالي. وعامل آخر، وجود علاقة مشبوهة بين الحوثيين وحركة الشباب المؤمن التابعة لتنظيم القاعدة التي تعمل في الصومال بالضد من الحكومة الصومالية كما تتحدّث أخبار أن الحوثيين يديرون أسواق السلاح في القرن الأفريقي، وينسقون مع القراصنة في الصومال لشنّ هجمات موحّدة ضد السفن التجارية في الخط الملاحي في البحر الأحمر، والمحيط الهندي، إضافة إلى أن هنالك مخاوف لدى القاهرة من أن يتحد التنظيم الإرهابي مع إثيوبيا في حال اتجهت الأوضاع نحو صدام عسكري مع إثيوبيا.
والخلاصة أن تكامل الدور المصري التركي في الصومال ومنطقة القرن الأفريقي عموماً قد يحقق الاستقرار في المنطقة، والأهداف الاستراتيجية لكلتا الدولتين، سواء أكان ذلك من خلال القنوات السياسية التي تعمل عليها أنقرة حاليّاً، أو من خلال التعاون العسكري، خصوصاً أن تركيا تملك قاعدة عسكرية في الصومال، وموقعة اتفاقية دفاع مشترك مع مقديشو، وأن اليمن بفعل نشاط الحوثيين العسكري في البحر الأحمر في قلب هذه الترتيبات، وأن منطقتي البحر الأحمر وخليج عدن، بضفّتيه اليمنية والصومالية، مفتوحتان على احتمالية مزيد من النشاط العسكري.