الواقعي والمزيّف
قبل سنوات، وفي خضم تظاهراتٍ شبابيةٍ حاشدة في بغداد، قال لي صديق إنه ذهب بزيارة اعتيادية إلى عائلة من أقاربه ذات مساء، وكان يتوقّع أن يسألوه عن أحداث التظاهرات الجارية في بغداد وما حصل فيها، ولكنه سرعان ما انتبه إلى أنهم لم يكونوا معنيين على الإطلاق بهذا الموضوع، ثم انتبه لاحقاً إلى منظّم القنوات التلفزيونية في يد الأب الذي كان يحرّكه بارتياح جيئة وذهاباً، ولكن ضمن قائمة قنواتٍ محدودة.
كانت هذه العائلة تتابع قنوات دينية، خاصة بالأدعية وقراءة القرآن والخطب الدينية، ورتّبتها بالتسلسل على قائمة القنوات، من دون وجود أي قناة إخبارية. عزلت هذه العائلة نفسها في قوقعة خاصّة، تفصلها عن مجريات الأحداث العامة، وهذا افتراضٌ من الخارج، أي؛ من الذين يرونه انعزالاً، ولكنه ربما لن يكون كذلك من وجهة نظر هذه العائلة، وقد ترى الآخرين، باهتماماتهم المغايرة، معزولين أيضاً في قوقعة أخرى مختلفة.
إمكانية أن أعيش على وفق النمط الذي يناسبني، بغض النظر عن رأي الآخرين، ربما تمثل جوهر الطبيعة الداخلية لعالم الانفتاح المعلوماتي وتقنيات التواصل الفائقة. وهذه الحرية الهائلة، وغير المسبوقة تاريخياً، في الخيارات أمام "المستهلك" من الأفراد، يقابلها، في الضفّة الأخرى، ضياع لفكرتنا الكلية عن الواقع، أو الواقع كما نجمع عليه نحن، بوصفنا مجموعة من الأفراد، تنتظم في إطار المجتمع أو الجماعة.
يقدّم لنا مونديال قطر 2022 مثالاً مهماً عن ضياع صورة الواقع، فهذا المونديال، مثلما هو مهرجان للمتعة والإثارة، هو أيضاً، وبشكل غير مسبوق ربّما، كان مهرجاناً للمعلومات المزيفة والصور المختلقة، بحيث صار من الصعب، إلا لشهود العيان على الأرض، معرفة حقيقة ما يجري وما جرى، وما حدث ويحدُث. وهذه من الآثار الجانبية، أو الوجه السلبي، لعالم حرية التواصل والمعلوماتية الذي صار بصلابة الواقع الفعلي اليوم.
تحدّث الفيلسوف الفرنسي جان بودريار (1929 ـــ 2007) في التسعينيات من القرن الماضي، في تشخيصه مظاهر ما بعد الحداثة في عالم اليوم، عن "اختفاء الواقع" بما يشبه النبوءة عن عالم مواقع التواصل الاجتماعي. ووصف بدقة سلطة "الشبيه" على الأصل، أو اختفاء النسخة الأصلية، كما يحدُث اليوم في نسخ الصور والبرامج والملفات، فالنسخة الأصلية لا تملك أي ميزة استثنائية عن المستنسخة عنها.
بتراجع سلطة المرجعيات الخارجية، صارت "الذات" المرجع الأساسي، ما يعني أن الميل والمزاج، وليس الحقيقة، هو ما يسيطر على سلوك الأفراد. .. واليوم، لن تستطيع، بمرور سهل وكسول على الأخبار، أن تعرف الحقيقة! تحتاج إلى جهد وتقصٍّ ومتابعة. وفي أحيانٍ كثيرة لن تعرف الحقيقة، فصورة "الشبيه" و"المختلق" تكاد تكون بثقل الأصلي والحقيقي وقوتهما.
وهنا يحضر دور المرشد والدليل والمراجع والمحرّر، الذي يحصل على ثقة جمهور معيّن، ويتم تعليق قلادة الثقة المصنوعة من عظام الأسلاف على رقبته، كي يُخبرنا بالحقيقة، كما كان يفعل الكهنة في عصور ماضية.
كان هؤلاء الكهنة، في عقود سابقة، بأربطة عنق وبدلات أنيقة، يظهرون في برامج تلفزيونية وإذاعية، أو على صفحات الجرائد الرسمية. ويمثلون سلطة (سياسية أو اجتماعية) واضحة المعالم. أما اليوم، فمعبد الكهنة أكثر اتساعاً، يتحرّك في الأثير، ويتم تطويب الكهنة الجدد (من يسمّون اليوم المؤثرين أو البلوغرات) على مذبح اللايكات وصنع محتويات الترفيه العابر.
المشكلة.. أن الكلام أعلاه يمكن أن يفسّر حنينا إلى زمنٍ مضى، إلى عالم واضح الأبعاد، ولكن هيهات.. سنغرق أكثر في عالم الشبيه، واختفاء الواقع، لصالح نسخ موازية أكثر تعدّداً لواقع هيولاني افتراضي. يمكن أن نراه ثراءً أو تلاشياً للجوهر، حسب وصف بودريار.
في الصورة الإيجابية أن هذه القدرة الفائقة غير المسبوقة على إنشاء نسخ موازية من الواقع هي قوة للتحرير، فهي تحرّر الأفراد من سيطرة الجغرافيا والمجتمع والسلطة السياسية والدينية. وما دمنا ذكرنا مونديال كرة القدم، أتذكّر كلاماً لصديق كان يملك محلاً للألعاب الإلكترونية في بغداد. .. يقول إنه كان، في ذروة الاحتراب الطائفي، مع أصدقاء من مختلف الخلفيات الطائفية والعرقية ببغداد، يخوضون صراعاً من نوعٍ آخر، في لعبة "فيفا" على الإنترنت. وتحديداً إصدار FIFA Online 2 التي نزلت في 2006.
كان تقسيم العالم في هذه اللعبة يجري وفق معايير أخرى، يفرضها الواقع الموازي الذي دخل إليه اللاعبون باختيارهم، بعيداً عن تقسيمات ساحة الصراع في الواقع الفعلي.