الهوية في مصر: أسئلة اقتلاع الجذور في الحوار الوطني
تضمّنت التوصيات التي أصدرتها لجان الحوار الوطني في مصر قبل أيام، قضية الهوية في المحور الاجتماعي، تحت عنوان "ترسيخ الهوية الوطنية والحفاظ عليها" والهدف "الحفاظ على الهوية وترسيخها" و"بناء الوعي الجمعي". دار الحوار بين فئات مختارة من المصريين، لكني لم أتصوّر أبداً أن التوصيات ستكون بهذا الشكل المختزل. في ما يلي بعض أسئلةٍ آمل أن تثير نقاشاً أعمق.
أولاً: لماذا لم يرد في الوثيقة أي مضمونٍ لعناصر هذه الهوية الوطنية التي استشعر المجتمعون خطرا عليها ووضعوا هذه التوصيات للحفاظ عليها؟ هل المقصود بها "الهوية المصرية" التي وردت متأخّرة في نهاية الصفحة الأولى من التوصيات، وضمن توصيات محور التعليم: "التوسّع في تدريس مناهج التربية القومية والأخلاق" لدعم "الهوية المصرية"؟ هل حسم المجتمعون رأيهم واصطفّوا مع الرأي الذي ترفعه أقلية صغيرة جدا تحت شعار "أنا مصري مش عربي" على بعض أدوات التواصل الاجتماعي. وإذا كان الأمر كذلك، لماذا لا يُعلن هؤلاء هذا بشكل صريح، ولا سيما أنّ الحوار جرى تحت رعاية السلطة؟
ثانياً: لماذا لم تتضمّن التوصيات أي إشارة إلى عروبة مصر وإسلاميتها؟ ألا تنصّ المادة الأولى من الدستور الحالي على أنّ "الشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تكاملها ووحدتها، ومصر جزء من العالم الإسلامي..."؟، وفي مادّته الثانية "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"؟ ألم تنصّ دساتير مصرية سابقة على عباراتٍ مشابهة، هذا بخلاف رسوخ هذه الهوية في ضمير الناس ووجدانهم قرونا طويلة؟ ألا يكتب الناس باللغة العربية الفصحى؟ أليس في مصر عطلات وأعياد رسمية مرتبطة بالإسلام والمسيحية؟ ألا تقام شعائر الإسلام والمسيحية في مساجد مصر وكنائسها؟ هل لا علاقة لهذا كله بالهوية؟
ثالثاً: لماذا يحرص أصحاب التوصيات على أنّ "الحفاظ على الهوية وترسيخها" و"بناء الوعي الجمعي" مسؤولية الدولة، ممثلة في عدة وزارات والإعلام ومؤسّسة الأزهر والكنيسة القبطية؟ ألا يوجد دور لفاعلين آخرين كالمجتمع وقواه الحيّة؟ وهل إسناد هذه المهمة لوزارات الدولة أمر حصيف، خصوصاً في ظل تماهي الدولة مع النظام السياسي الذي يتسم بالحكم الفردي وغلق المجال العام والسيطرة على مؤسّسات الدولة؟ وهل جاءت الحكومة الحالية نتيجة انتخاباتٍ تنافسية حتى يمكن تصوّر أنّه يمكن استئمانها على "تشكيل الوعي الجمعي" للمصريين؟
رابعاً: لماذا الحرص على بقرطة إنجاز ذلك الهدف، عبر اقتراح إطار تنظيمي لهذه الوزارات والهيئات، ووضع (وتنفيذ) استراتيجية تحت "قيادة سياسية وثقافية وفكرية جامعة"؟ ومن تكون هذه القيادة؟ أليس هذا النمط من سيطرة الدولة على تشكيل الوعي من مُخلفات الأنظمة الشمولية التي تكاد تختفي، وأدّت، في بعض الحالات، إلى كوارث وحروب أهلية؟ ألا يتناقض هذا مع حقوق وحريات عديدة، كالفكر والضمير والرأي والتعبير؟
لماذا تدعو التوصيات إلى إطلاق قناة خاصة بالأطفال "محتواها بلهجة مصرية" بينما لم تحتوِ على أي إشارة إلى ضرورة الاهتمام باللغة العربية؟
خامساً: دعت التوصيات إلى صياغة "وثيقة الحفاظ على الهوية المصرية" عبر النقاش المجتمعي وتحويلها إلى سياسات لتحقيق أربعة أهداف، هي (كما وردت ومن دون تصحيح الهنات): "أ. ترسيخ القيم الإنسانية كنمط حياة للمصريين، ب. ضمان تحقيق مواطنة فعالة تقوم على المساواة أو المشاركة، ج. تعزيز ثقافة نبذ العنف وخطابات الكراهية والتوعية المستمرة بإخطارهم، د. تحليل الموروث الثقافي المصري وتحديد مدى اتفاقه مع قيم الوطنية وقيم المساواة والسلام وهكذا العادات والتقاليد الموروثة". هنا تثار عدة أسئلة: ما هي هذه "القيم الإنسانية" التي يُراد تنميط حياة المصريين على أساسها؟ وهل القيم العربية الأصيلة التي جاءت مع العرب قبل دخول الإسلام إلى مصر وبعده، والقيم الإسلامية المستمدّة من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، والقيم المستمدّة من "شرائع المصريين من المسيحيين واليهود" (كما ورد في الدستور الحالي) من ضمن هذه القيم الإنسانية؟ لماذا تتجاهل التوصيات هذه المصادر كلها؟ أليست الأديان هي المصدر الأول للقيم النبيلة؟ وأين ستذهب أخلاق الإسلام وقيمه ومبادئه في المعاملات بين الناس، مثل العدل والإحسان والصدق والأمانة والكرم والتراحم والتواضع والرفق وحسن الظن بالآخرين ونصرة المظلوم وغيرها؟ وأين ستذهب القيم الحاكمة للسياسة في الإسلام، مثل: العدل والأمة مصدر السلطة وتعاقدية السلطة والشورى ومقاومة الجوْر ومساءلة الحكّام والمشاركة في الشأن العام والفصل بين المال العام والخاص؟ ألسنا في حاجةٍ إلى إعمال هذه الأخلاق والقيم في الواقع للمساهمة في تخليص المصريين من الظلم والفقر والتمييز والطغيان؟ أم أن هذه القيم هي "الموروث الثقافي المصري" الذي تدعو التوصيات إلى "تحليله"، و"تحديد مدى اتفاقه مع قيم الوطنية..."؟
وما هي معايير "الوطنية"؟ هل النظام السياسي هو من يحدّدها، فيمنح صكًا بها لمن يشاء ويمنعها عمّن يشاء؟ أليست النظم البوليسية والشمولية والفاشية هي من قامت بهذا في أوروبا أولاً، ثم صُدّرت لنا لتقوم أنظمتنا التسلطية بالممارسات نفسها؟ ومن المسؤول في الأساس عن زرع القيم الهدّامة في مجتمعاتنا وعن ضرب الأسرة وزرع الفهلوة والشطارة والتسيّب وعدم احترام القانون؟
سادساً: لماذا تدعو التوصيات إلى إطلاق قناة خاصة بالأطفال "يكون محتواها بلهجة مصرية"، بينما لم تحتو على أي إشارة إلى ضرورة الاهتمام باللغة العربية، وهي اللغة الرسمية لمصر؟ ألا يكفينا ما أصابنا من تأخّر في لغتنا الرسمية التي كُتبت بها أمهات الكتب في الشعر والنثر والرواية والقصة، وتكتب بها دساتيرنا وقوانيننا ومكاتباتنا الرسمية ومناهجنا التعليمية والتربوية؟ ألا يكفي ما أصابها من ضرر جرّاء السياسات التعليمية المتخبّطة حتى صارت محلّا للسخرية في الإعلام والمدارس والجامعات؟ ولماذا صار بعض الآباء والأمهات يتباهون بأن أبناءهم يتحدّثون الإنكليزية فقط؟ لماذا يحدُث هذا عندنا بينما تحرص أمم الأرض قاطبة على لغاتها الوطنية وتستخدمها في التعليم الأساسي والجامعي بجانب تعلّم اللغات الأجنبية؟ هل هناك دول حديثة تفعل في لغتها ما نفعله في لغتنا ويراها أصحاب التوصيات مثالاً يُحتذى؟
ينبغي أن يكون نقاش قضايا الهوية بعيداً تماماً عن النظام الحاكم، وبمشاركة الجميع بلا إقصاء أو تمييز، ولن يكون بنّاءً إلّا بعد أن يصبح الناس أحراراً
سابعاً: لماذا الاقتصار على "استعادة روح الهوية المصرية القديمة" فقط في الطابع المعماري؟ أليس في مصر آثار إسلامية ومسيحية تجعلها في صدارة الدول التي تمتلك هذا النوع من الآثار؟ أم يتفق هذا مع هدم مواقع أثرية في القاهرة لتوسيع الطرق وبناء الجسور؟ ألسنا في حاجة إلى استخدام كل أدوات القوة الناعمة التي يمكن استخلاصها من هويتنا ورموزنا وتاريخنا وتراثنا، كما تفعل كل الأمم الحية؟
ثامناً: لماذا الإصرار على صرف أنظار الناس عن السياسات والممارسات التي رسخت الظلم والفقر وإهدار المال العام، وإشعارهم بأن ما يمتلكونه من تراث وقيم هو مصدر تعاستهم وأن الدولة هي من ستعلّم الناس القيم الإنسانية؟ ولماذا النظرة الانتقائية والاختزالية للتراث بالإصرار على إبراز ما يبرّر ممارسات الطغاة فيه فقط بينما يتم تجاهل الجوانب الإيجابية فيه؟ ألا يعلم أصحاب التوصيات أن لهذا التراث صداه في الحضارات الأخرى، ولأجل دراسته أقيمت أقسام علمية في كبرى الجامعات في الشرق والغرب، وأن التراث يتم تدريسه هناك بوصفه تراثاً ثرياً، وواقعياً، وعقلياً، ومرتبطاً بالأخلاق والفضائل، وصيغ كثيرٌ منه صياغة قانونية، وما كان له أن يرى النور لولا الحرّية التي عاشت فيها الشعوب (مسلمين ومسيحيين ويهود)، وعلى الأخص حرية الاجتهاد التي تناظر عدّة حرّيات في زماننا، مثل حرية التعبير والفكر والبحث العلمي والحرّيات الأكاديمية واستقلال الجامعات؟ وهو في النهاية، وكأي تراثٍ آخر، غير مقدّس، يؤخذ منه ويردّ؟
أخيراً، ثمّة أمران، الأول: ينبغي أن يكون نقاش قضايا الهوية بعيداً تماماً عن النظام الحاكم، وبمشاركة الجميع بلا إقصاء أو تمييز، ولن يكون بنّاءً إلّا بعد أن يصبح الناس أحراراً. الثاني: في العقد الأخير، تغيرت أمور كثيرة في مصر من ناحية القوانين والمؤسّسات وممارسات السلطة لإجهاض ثورات الشعوب العربية من أجل الديمقراطية انطلاقاً من مصر، الدولة الأكثر تأثيراً في محيطها، فهل تأتي هذه التوصيات ضمن تغييرات ثقافية كبيرة يُراد إنجازها لقطع جذور الأمة في مصر، الدولة القلب، والتي انتصرت جيوشُها على التتار والصليبيين، ثم على الصهاينة في أكتوبر (1973) تحت شعار "الله أكبر"؟