الهجرة السرّية في المتوسط وحالة طوارئ
أعلنت رئيسة وزارء إيطاليا، جورجيا ميلوني، في الأسبوع المنقضي، حالة الطوارئ ستة أشهر، وهي حالة لم تشهدها بلادها إلا نادراً، تزامنت عموماً مع مصاعب كبرى، كالتي إبّان جائحة كورونا. وقد كلفت مسؤولاً رفيعاً بإدارة هذه الملف، بالتعاون من منظمة الصليب الأحمر الدولي. وكان آخر مرة لمثل هذا التعيين يعود إلى سنة 2011 إبّان اندلاع الموجات الكبرى للهجرة، على إثر ثورات الربيع العربي. وتقول السلطات الإيطالية إنّ نسبة الهجرة ارتفعت بنسة 300% مقارنة مع سنة 2022.
تمنح حالة الطوارئ المعلنة هذه السلطات الإيطالية بموجب القانون سلطات استثنائية، تجيز لها اتخاذ كلّ التدابير الممكنة من أجل حفظ مصالح البلاد العليا، وفي مقدمها الأمن القومي. لا شك أنّ إيطاليا استغلت الأزمة الهجرية الحادّة التي يشهدها البحر الأبيض المتوسط من أجل اتخاد هذه الإجراءات غير المسبوقة، وهي التي لوّحت بها طويلاً، ملقية اللوم الشديد على بقية أعضاء الاتحاد الأوروبي الذين تركوها وحيدة تواجه مشكلة لا تقدر بمفردها أن تجد لها حلاً.
أخفق الاتحاد الأوروبي في إيجاد سياساتٍ موحّدة في مجال الهجرة، رغم معاهداتٍ عديدة، لعل أهمها الميثاق الأوروبي للهجرة الذي وقعت عليه كل الدول الأوروبية واعتبر القاعدة الموحّدة للتصرّف في الهجرة، غير أنّ إيطاليا كانت تتهم دوماً بقية أعضاء الاتحاد بأنّهم يتركونها لمصيرها، وأنّ بعض المساعدات الأوروبية لا تفي بالحاجة، وأنّ التمويل وتحديث وسائل المراقبة على الشواطئ الإيطالية لم يعودا كافيين لمواجهة الظاهرة.
تلوم إيطاليا السلطات التونسية منذ الثورة على أنّها لم تكن جادّة بما يكفي في ما تسميها مكافحة الهجرة غير الشرعية
أفادت منظمة الهجرة العالمية (تتبع الأمم المتحدة) بأن الأشهر الثلاثة الأخيرة كانت الأكثر مأساوية منذ سنوات عديدة في المتوسط، إذ سجّلت وحدها موت ما يناهز 450 قتيلا، توفي معظمهم غرقا في محاولاتهم اليائسة للوصول إلى الضفة الشمالية من المتوسط. وذكرت المنظمة أن نحو 20 ألفا لقوا حتفهم في عرض المتوسط منذ سنة 2014، مرجّحة أن تكون هذه السنة هي الأكثر دموية في تاريخ الهجرة في هذه المنطقة، اعتمادا على المؤشّرات الحالية التي تنذر بمزيد من المخاطر، حتى إن بعضهم لم يتردّد في تسمية البحر المتوسط بحر الغياب، في إشارة إلى ما كان يصرّ عليه مؤرّخ فرنسي كان متيماً بهذا البحر، حتى سمّاه بحر الحضور، أو هو صرّة العالم، خصوصاً في العصر الوسيط.
لم يكن إعلان إيطاليا مفاجئاً لخبراء ومختصّين عديدين وهي التي استغلت خطاب الرئيس التونسي قيس سعيّد، والأزمة التي سبّبها مع نظرائه الأفارقة والمنظمات الدولية الكبرى، على غرار البنك الدولي الذي أغلق معظم شراكاته الاستراتيجية مع تونس إلى وقت لاحق، حتى تثير حالة من الهلع لا تخلو من مبالغة وابتزاز كبيرين. تلوم إيطاليا السلطات التونسية منذ الثورة على أنّها لم تكن جادّة بما يكفي في ما تسميها مكافحة الهجرة غير الشرعية. وهي لهذا السبب تعرض عليها سلة من المساعدات من أجل إنقاذ البلاد من انهيار وشيك، وقد استعملت السلطات الإيطالية قاموساً جريئاً وصادماً لوصف حالة البلاد: إنه الانهيار الوشيك، السقوط بين أيادي الإخوان المسلمين، عازفة بذلك على هواجس الاتحاد الأوروبي، المهووس بزحف المهاجرين والمتطرّفين على حدوده. تعرض إيطاليا نفسها وسيط خير، وهي تعلم أن تونس المتأزمة بقضاياها المستعصية آخر نقطة في أفريقيا يمكن أن تكون مربّعاً استراتيجياً من أجل تعاون مثمر، تلعب بمقتضاه دوراً متقدّماً في مساعيها التي عجزت بمفردها عن أدائها، أنها تبحث عن شريك مستعدّ لاقتراف كل الآثام الممكنة من دون أن يكون عرضة لمساءلة المحكمة الأوروبية التي اشتكى لها، أخيراً، مهاجرون تونسيون غير شرعيين، وأصدرت أحكاماً منصفة لهم.
صرّح وزير الخارجية التونسي، نبيل عمّار، أن بلاده مستعدّة لفعل ما يلزم من أجل مكافحة الهجرة
تعلم إيطاليا أن السلطات التونسية مستعدة لفعل ما يطلب منها في "برنامج مكافحة الهجرة غير الشرعية"، خصوصاً أنّ وزير الخارجية التونسي، نبيل عمّار، قد صرّح مرّاتٍ أن بلاده مستعدّة لفعل ما يلزم من أجل مكافحة الهجرة، غير أنّ الإمكانات المادّية تعوزها. زار قبل أيام روما من أجل البحث في تجسيد تلك الالتزامات المعلنة. ويذهب بعضهم إلى أنّ نتائج الزيارة تضمنت وعداً إيطالياً صريحاً بإقناع المسؤولين الأوروبيين للضغط على صندوق النقد الدولي، حتى يعيد برمجة الملف الاقتصادي التونسي على طاولة الدرس في الأشهر المقبلة، بعد تأجيله. وبتكثيف المساعدة الثنائية، خصوصاً ما يتعلق بالدعم اللوجستي لمراقبة السواحل التونسية بأكثر فاعلية. وفي زيارة كبار المسؤولين الإيطاليين تونس، ومنهم وزيرا الخارجية والداخلية، كانت الهجرة الموضوع الأوحد تقريباً في مباحثاتهم مع نظرائهم التونسيين.
عاد بعض المسؤولين الإيطاليين إلى ذكر ما سميت الدرجة الصفر من الهجرة، وهي حالة مشتهاة، غير أنّ المهاجرين سيردّدون في عرض البحر، وكلامهم يذروه رذاذ الموج المتطاير، قول الشاعر:
تجري الرياح كما تجري سفينتنا/ نحن الرياح ونحن البحر والسفن
إن الذي يرتجي شيئاً بهمّته يلقاه/ لو حاربته الإنس والجن
فاقصد إلى قمم الأشياء تدركها/ تجري الرياح كما رادت لها السفن.