النفوذ الإيراني والمشروع الصهيوني... وواقع المنطقة

16 ديسمبر 2024
+ الخط -

يمثّل دور إيران في المنطقة العربية إحدى القضايا الشائكة التي تتصدّر المشهد السياسي والاستراتيجي. غالباً ما تُطرح إيران عاملاً رئيساً لمشكلات المنطقة، لكنّها، في الوقت نفسه، تُعدُّ عنصراً أساساً في معادلة الصراع الإقليمي. ما يغيب عن قراءات سياسية كثيرة فهم السياقات التي ساهمت في نشوء هذا الدور الإيراني وتوسّعه، والتحدّيات التي فرضتها القوى الدولية، وفي مقدمتها المشروع الغربي الصهيوني، على المنطقة العربية والإسلامية، ما أفسح المجال لتضخّم أدوار إقليمية في ظلّ غياب عربي واضح.
لم يكن ظهور النفوذ الإيراني في المنطقة وليد لحظة سياسية عابرة، بل نتج من سلسلة أحداث كُبرى أعادت تشكيل المشهد الإقليمي. يمكن تتبع جذور هذا النفوذ إلى الثورة الإيرانية عام 1979، التي لم تكن مُجرَّد حدث داخلي، بل جاءت ردّة فعل مباشر على عقود من التدخّل الغربي في شؤون إيران، ودعمه نظام الشاه الذي همّش حقوق الشعب الإيراني؛ هذا الشعب الذي كان له حراك مدني قوي في الخمسينيّات أفرز حكومةً وطنيةً بقيادة محمد مصدّق، رأى أحلامه بالحرّية والاستقلال تُسحق تحت وطأة الانقلاب المدعوم من الولايات المتحدة وبريطانيا عام 1953، والذي أعاد نظام الشاه القمعي إلى السلطة. هذه التجربة التاريخية رسّخت لدى الإيرانيين عداءً للغرب ورغبةً في بناء نظام مستقلّ قائم على مقاومة الهيمنة الخارجية، وهو ما شكّل الأساس للثورة.
كان تطوّر النفوذ الإيراني في المنطقة وثيق الصلة بمحورية القضية الفلسطينية في الثورة الإسلامية، ومركزيتها في خطابها السياسي. منذ اللحظة الأولى لانتصار الثورة عام 1979، أعلنت إيران بوضوح أن دعم الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة ركن أساس في سياستها الخارجية، فأغلقت السفارة الإسرائيلية في طهران، وحوّلت سفارةَ فلسطين، في خطوة رمزية جسّدت التزامها بالمقاومة. تعزّز هذا الالتزام مع احتلال إسرائيل جنوب لبنان عام 1982، إذ أسهم الدعم الإيراني المباشر في تأسيس (وتعزيز) حزب الله، الذي أصبح قوّةً محوريةً في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. كذلك، مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، رأت إيران فيها فرصةً تاريخيةً لدعم النضال الفلسطيني ضدّ الاحتلال، معتبرةً أن هذه الانتفاضة تعكس روح المقاومة التي تبنتها الثورة الإسلامية. لم يكن هذا الارتباط بالقضية الفلسطينية مُجرَّد شعار، بل كان جزءاً من استراتيجية شاملة لمواجهة الهيمنة الإسرائيلية والغربية في المنطقة، ما جعل دعم المقاومتين الفلسطينية واللبنانية محوراً أساساً لنفوذ إيران الإقليمي، خاصّةً في ظلّ تراجع عربي كبير بخروج مصر من الصراع.
لكنّ الثورة وحدها لم تكن كافيةً لتمكين إيران من لعب دور إقليمي واسع، ما عزّز هذا النفوذ هو التدخّلات الأميركية في المنطقة، خاصّة احتلال أفغانستان عام 2001، والعراق عام 2003. دفعت هذه التدخّلات إيران إلى مزيج من السياسات الدفاعية والهجومية لضمان حماية مصالحها. من شرقها، شكّلت أفغانستان المحتلّة تهديداً مباشراً للأمن الإيراني، حيث وجد الإيرانيون أنفسهم في مواجهة قوة عظمى تحتل دولةً مجاورةً في حدودهم الشرقية. في الغرب، كان الاحتلال الأميركي للعراق يمثّل تهديداً أكبر، لأنه أزال نظاماً كان يشكّل حاجزاً استراتيجياً أمام النفوذ الإيراني، وأوجد فراغاً أمنياً وسياسياً استغلّته إيران لحماية مصالحها. شعرت إيران أن تطويقها من الشرق والغرب والجنوب عبر القواعد الأميركية في الخليج العربي يمثّل خطراً وجودياً على الثورة والدولة، ما دفعها إلى التحرّك بقوة لملء الفراغات الإقليمية، والدفاع عن نفسها.
في هذا السياق، كان تدخّل إيران في العراق بعد سقوط نظام صدّام حسين جزءاً من استراتيجية أوسع لضمان عدم تحول العراق منصّة أميركية دائمة لتهديدها. كان دعمها المجموعات الشيعية العراقية وتأسيسها تحالفات مع قوىً سياسيةٍ عراقية يهدف إلى حماية حدودها الغربية وتأمين مصالحها في بلد مجاور يشكّل أهميةً استراتيجية كُبرى. في أفغانستان أيضاً، اضطرّت إيران إلى التعامل مع واقع الاحتلال الأميركي عبر دعم بعض القوى المناهضة للاحتلال، مع التأكّد من أن تأثير طالبان التي كانت خصماً أيديولوجياً لها، لن يتوسّع.
شكّلت القضية الفلسطينية عاملاً محورياً في تعزيز النفوذ الإيراني. ومثّلت الانتفاضة الثانية، التي واجه فيها الشعب الفلسطيني القمع الإسرائيلي الوحشي، والاحتلال المستمرّ لفلسطين مع سياسة الفصل العنصري وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم الأساسية، حافزاً لإيران إلى دعم المقاومة الفلسطينية. الانسحاب الإسرائيلي من غزّة عام 2005 كان فرصة لتعزيز قوى المقاومة، التي استفادت من الدعم الإيراني عسكرياً ومالياً. ومع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية على غزّة، خاصّة خلال الحروب المتكرّرة، ازدادت قوة العلاقة بين إيران وفصائل المقاومة الفلسطينية. وأسست هذه العلاقة دوراً إيرانياً أعمق في المنطقة، قائماً على محورية القضية الفلسطينية محرّكاً أساسياً لاستراتيجيتها الإقليمية.
في السياق الإقليمي، لم يكن لإيران بعد الثورة حضور كبير في المنطقة خارج دعمها لقضايا التحرّر، خاصّة القضية الفلسطينية. في عام 2010، كان الوجود الإيراني في سورية محدوداً، واقتصر على عدد قليل من المستشارين الذين تركّزت مهماتهم في دعم المقاومتين اللبنانية والفلسطينية. لم تكن العلاقة الطيّبة بين إيران والنظام السوري (آنذاك) تعني وجوداً عسكرياً أو نفوذاً واسعاً، لكنّ محاولات إشاعة الفوضى في سورية بدعم الجماعات المسلّحة، وإدخال البلاد في حرب أهلية مدمّرة، عزّزت الوجود الإيراني. جاء تدخّل إيران ردّة فعل على محاولة تفكيك محور المقاومة، ما جعلها تعمّق وجودها لحماية مصالحها وحلفائها في المنطقة.
إضافة إلى ذلك، شكّل "الربيع العربي" فرصة لإيران لتعزيز نفوذها، خاصّة في ظل الفراغ الذي أحدثه انهيار بعض الأنظمة العربية. ومع ذلك، لم يكن هذا النفوذ نتاج رغبة إيرانية محضة في التوسّع، بل جاء ردّة فعل على تصاعد الهيمنة الغربية في المنطقة. فقد عملت إيران على مواجهة تلك الهيمنة عبر استهداف ركيزة الغرب الأساسية في المنطقة، إسرائيل وحلفائها الإقليميين. وأما إيران التي ترى في الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين التهديد الأكبر لثورتها ودولتها، كان دعم المقاومة وتقليص النفوذ الغربي خياراً استراتيجياً يتماشى مع مبادئ ثورتها ونهجها في معاداة الهيمنة الخارجية.
تكمن الأزمة الأعمق في غياب الدور العربي الفاعل، الذي كان من الممكن أن يحدّ من تضخم النفوذ الإيراني. بدلاً من أن يتبنّى العرب رؤية استراتيجيةً مستقلّةً، تحوّل كثير منهم أدواتٍ في يد القوى الغربية، يخضعون للإملاءات الأميركية، ويتماهون مع السياسات التي تخدم المشروع الإسرائيلي. هذا الغياب خلق فراغاً سياسياً واستراتيجياً، كان من الطبيعي أن تسعى قوى إقليمية مثل إيران وتركيا إلى ملئه. لكن النفوذ الإيراني تحديداً يثير الجدل، لأنّه يرتبط مباشرة بمحور المقاومة، الذي يُنظَر إليه عقبةً أمام المشروع الصهيوني.
يكمن الحلّ في رؤية استراتيجية تجمع بين إعادة تفعيل الدور العربي وتوجيه النفوذ الإيراني نحو سياسات أكثر توافقاً مع مصالح الشعوب. ليست المنطقة في حاجة إلى صراعات جديدة أو محاور متناحرة، بل إلى بناء مشروع حضاري مقاوم، يقوم على الاستقلال والعدالة. ليست المواجهة الحقيقية مع إيران، بل مع المشروع الغربي الصهيوني، الذي يسعى إلى إعادة تشكيل المنطقة بما يخدم إسرائيل، ويضمن تفوّقها العسكري والاقتصادي. لذلك، يجب أن يُربط أيّ حديث عن تراجع النفوذ الإيراني بمشروع شامل يعيد التوازن إلى المنطقة، وليس مُجرَّد رغبة في التخلّص من قوة إقليمية.
في النهاية، يجب النظر إلى النفوذ الإيراني باعتباره نتاجاً لتفاعلات معقّدة تراوح بين مقاومة الهيمنة الغربية والصهيونية من جهة، وغياب المشروع العربي من جهة أخرى. الحلّ لا يكمن في تقليص هذا النفوذ أو إقصائه، بل في إعادة صياغة العلاقة بين القوى الإقليمية بما يخدم مصالح شعوب المنطقة، هذه القراءة الاستراتيجية ليست دعوة إلى التبعية أو إلى الصراع، بل إلى بناء مستقبل يقوم على العدالة والاستقلال، بعيداً عن الهيمنة الغربية والصهيونية.

ناصر أبو شريف
ناصر أبو شريف
عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الإسلامي.