المهرّج الحزين

26 يونيو 2022

زيلينسكي يتحدث عبر شاشة إلى مهرجان غلاستونبري في انجلترا (24/6/2022/Getty)

+ الخط -

مائة يوم كانت كافيةً ليصبح المهرّج "السعيد" حزينًا، فقد بهتت الضحكة المجلجلة، وخفتت أضواء المسرح، وأسدلت الستارة، وصار على فولوديمير زيليسنكي أن يعترف أنه الرئيس الأغبى عالميًّا، عندما انطلت عليه خدعة "البطولة".

قبل مائة يوم، كان المشهد مغايرًا في مسرح الاتحاد الأوروبي، فجمهور المشاهدين كانوا يملأون المقاعد عن آخرها، بانتظار إطلالة المهرّج "البطل"، الذي قرّر أن يلعب دور المحارب الوحيد في مواجهة جحافل الشرّ القادمة عبر الحدود، فقوبل بعواصف التصفيق والإعجاب، بوصفه رمزًا لـ"الخير"، و"الضحية المتمرّدة على الظلم"، وممثل "العالم الحرّ" في هذه الحرب الضروس، غير أن أحدًا لم يهمس في أذن المهرّج "السعيد": المعركة ستنتهي بانتهاء خطابك هذا، وجماهير الاتحاد الأوروبي، والبيت الأبيض، ستؤوب إلى بيوتها، لتراقب مجريات المعركة عن بعد.

قبل مائة يوم، كان المهرّج يرقص على حبل ممتدّ من كييف إلى واشنطن، مرورًا بوارسو وباريس وبرلين وعواصم شتّى. كان يرى الأفق منفسحًا، وعصا التوازن صلبةً، وفي وسعها أن تحفظه من السقوط "غير الحرّ" بالتأكيد؛ لأن ثمّة من كان يدفعه من الخلف كلما ساوره الرعب وطال أمد الحرب، فالخسارة هنا ليست شخصيةً فقط، بل تشمل وطنًا وشعبًا سيحاسبانه بمرارة وقسوة إن خسر الحرب؛ أما التاريخ المتلفّع بعباءته فوق منصّة القضاة، فلن يرحمه بوصفه مغامرًا مخدوعًا لم يحسب النتائج جيدًا قبل خوض لعبة الروليت الروسية.

زيّن له المشاهدون أنها حربٌ خاطفة لا تتطلّب أزيد من الصمود أيامًا عدة، وتلقّي صاروخين أو ثلاثة، وبعدها سيندحر الغزاة مع قسوة المقاطعة الدولية التي ستضرب عليه، غير أن السحر انقلب على "الحواة" و"المهرّج"، بعد أن بدأت آثار الحصار تظهر على "المحاصِر"، بكسر الصاد، ارتفاعًا في الأسعار، ونقصًا في الوقود، وهبوطًا في أسعار الأسهم، بينما راحت الحالة الاقتصادية للمحاصَر تنتعش، فارتفع سعر صروف الروبل أمام الدولار بنسبٍ كبيرة، ولم ينقطع التصدير، لا سيما النفط والغاز، وأغلبهما إلى دول الحصار، التي لم تفلح بعد بتوفير بديل مجد اقتصاديًّا لهما.

كان في اعتقاد "المهرّج" أنه سيحقّق للدول الصغرى حرياتها كاملة، حتى وإن ارتطمت بحريات الإمبراطوريات العظمى من أمثال روسيا الاتحادية، فولج دائرة المحظورات بقدميه؛ لأن تلك الإمبراطوريات لا تقبل أدنى تهديدٍ لحيّزها الحيويّ، حتى وإن بلغ الحيّز أقصى المعمورة، فما بالك إن كان التهديد مجاورًا لها كما أراد أن يفعل المهرّج عندما أشاع نيّته الانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. غير أن غباءه الأفدح كان في يقينه بالإسناد العسكري الغربي له. كان يتوهّم أن الدول التي أشبعته نفخًا ستهبّ لتحارب معه إن لم يكن قبله، وحدث ما توقعه، لكن بأساطيل لم تحمل غير الثرثرة، وجيوش الوعود.

واليوم، يكتشف المهرّج "الحزين" مدى عزلته، عندما يرى دول الغرب تنسحب رويدًا رويدًا، حتى من لغة التهديد الأولى إلى لغة المساومة، والبحث عن مخارج، ليس لأنها أدركت أن أي تماسّ عسكري مباشر مع قوة عظمى كروسيا يعني نهاية الجغرافية، فهذا الأمر كانت تعلمه قبل الحرب، لكنها أرادت توريط روسيا في حرب عصاباتٍ على غرار ورطتها في أفغانستان، لإضعافها والحدّ من طموحاتها باستعادة أمجادها القديمة.

لم يعد أحدٌ يستقبله استقبال الأبطال، كما كان يحدُث سابقًا، بل على العكس، فالكلّ يروغ منه ويتحاشى لقاءه. ولم يعد أحدٌ يصفق له كلما صعد منبرًا أو احتلّ شاشةً مرئية عن بعد؛ لأنه يذكّر الغرب بأزمته التي ورّط نفسه بها عندما انخرط في قطيع الثيران الأميركي الهائج ضدّ روسيا.

لم يسعفه أحد، ولا حتى اليهود الذين استجار بهم، بوصفه يهوديًّا قبل أن يكون أوكرانيًا، وها هو يقبع على مسرح التهريج وحيدًا، حزينًا، منبوذًا يبحث عن أي طريقةٍ للخروج من مأزقه، فلا يجد غير الإذعان للشروط الروسية عمّا قريب .. وذلك هو ثمن الخيبة لمن يمحض الثقة أميركا وحلفاءها. أما المسرح، فلن يبقى عليه سوى مهرّج منكفئ يضحك لنفسه، وعلى نفسه.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.