المنفى ... تلك المتاهة وتلك القسوة
في صيف 1867، كان لوي بونابرت قد بلغ أقصى درجات المجد الذي يمكن أن تبلغه الجريمة. كان في الذروة، إذ وصل إلى أقصى درجات الخزي والعار، ولم تعد ثمّة عقبة تعترضه. كان رذيلا، وكان عظيما، ولم يكن هناك نصر أتم من نصره، إذ يبدو أنه انتصر على الضمائر؛ كان أصحاب الجلالة وأصحاب الفخامة كلهم عند قدميه أو بين ذراعيه.
كان الناس يسخرون من هوميروس على منصّات المسارح، ومن شكسبير في الأكاديمية. ويؤكّد أساتذة التاريخ أن ليونداس وجويوم تيل لم يكن لهما وجود بالمرّة، كانت الأمور كلها متوافقة، وليس هناك ما يشذّ عن سواء السبيل، وهناك توافق بين ضحالة الأفكار واستسلام الناس. تُرى هل يكره المنفي نافيه؟ كلا، إنه يحاربه، هذا كل ما هنالك، يحاربه بمنتهى الشدّة؟ نعم، وباعتباره عدوا عامّا، لا عدوا شخصيا، فالرجل الشريف إذا غضب لا يتعدّى في غضبه الحدّ الضروري. والمنفي يمقت الطاغية ويتجاهل شخصية النافي، وإذا عرفه فإنه لا يهاجمه إلا في حدود الواجب، والمنفي يراعي العدل عند اللزوم مع النافي، فإذا كان النافي مثلا كاتبا بنوعٍ ما، له بعض الأعمال الأدبية، سلم له المنفي بذلك عن طيب خاطر.
وليس من شك، في هذه المناسة، في أن نابليون الثالث كان أكاديميا مناسبا، فقد هبطت الأكاديمية في العهد الإمبراطوري بمستواها، من باب اللياقة ولا شك، حتى تضم الإمبراطور إلى عضويتها. ولا بد أن الإمبراطور قد اعتقد بأنه جدير بمكانةٍ فيها بين أقرانه من الأدباء، ولم يمسّ جلالته مكانة الأعضاء الأربعين الآخرين.
هل انتهى القساة عن تكرار ما قاله فيكتور هيغو بالقلم والمسطرة منذ 1867 وإلى ما شاء الله، ومن قبل ذلك بقرون أيضا؟ هل القسوة على المنفي ووضعه في متاهة دائمة تمثّل نصرا داخليا وخارجيا لأي دكتاتور في أي أرض، وهل هزيمة المنفي وتكسيره روحيا تمثل صكّا للداخل على ذلك النجاح المدموغ بالدم والقسوة لأي دكتاتور، وشهادة مزوّرة على حسن سيره وسلوكه وسرعة الإنتاج داخل وطن الدكتاتور؟ تأملت كلمات فيكتور هيغو وتأمّلت حالنا، فشعرتُ بالغصّة وشبح الهزيمة، فما بالي لو كنتُ منفيا؟
الدساتير، في أي بلد دكتاتوري، منقحةٌ جدا من شوائب اللغة وموضوعة في أدبٍ على منصّات القضاء، والألسنة تشرح النصوص، وتبتسم في لؤم لا يدارى ومفضوح من فوق المنصّة، والمنفي المحكوم عليه غيابيا هناك بجوار شجرة صنوبر يقرأ صحيفةً عن أسعار الأطعمة التي صارت غالية جدا في بلاده، وعلى أهله الذين تركهم من سنواتٍ خلف ظهره، دائما هناك ما يؤلمه، حتى وإن كان هناك ما لا يؤلم، حتى وإن تعارك عصفوران على فتات مائدةٍ في حديقة، فهي أشياء تذكّره بمعارك الوطن على بعض الفتات.
شبح القسوة يطارد المنفي في كل شبر، حتى وإن كان سعيدا ويضحك. ماذا يملك المنفي غير بدنه الضعيف. والقاضي هناك يعدل من ثوبه الذي يقترب من أن يكون كهنوتا آخر له ملامح القسوة وسيف العدالة، أو ميزانها افتراضا، ولا بد أن ترتفع الخشبة قليلا احتراما للكهنوت، وتصغيرا للرعية. المشهد معدّ بإتقان، كي تتلقّى ما يصدر وكأنه عدالة السماء. والمنفي هناك يخاف حتى من عروق رقبة القاضي، فما بالك لو كان لديه خمسة من المستشارين أولاده، هل نحن في نهاية العالم أم تحته؟
الله هناك في سماواته ولطفه، يحرُس بلا ضغط ولا رصاصة، ومن معه السلاح يجلس كذئبٍ خلف باب الليل، والمنفي هناك يعاند صبره ويصبر رغما عنه، كل حملة الكتب المقدّسة "كموظفين أتباع" عند الدكتاتور خلف رقعة الشطرنج ينتظرون المنتصر وبأي وسيلةٍ كانت، حتى وسيلة السكاكين والنار، كي تخرُج من الكتب الآيات المنسية الواعدة بالنصر، تخرج الآيات جيدة وحكيمة ومتماسكة ومعطرة، إن لزم الأمر.
المنفي هناك يخاف، حتى من صوت الأبواب البعيدة أو دوريات الحرس، ويتحسّس حقيبته للاطمئنان على وجود جواز سفره. نعم، كما يقول فيكتور هيغو، يتماهى الدكتاتور مع الحشود التي اشتراها أو اشترى ضمائرها بالوعود أو بالنفيس أو القليل في غالب الأمر، وخصوصا في أزمنة القحط. ويظل المنفي، كما يقول فيكتور هيغو، ينتظر "الشعب" ويراهن عليه، حتى وإن كان هذا الشعب بلا أي أقدام وبلا أي ملامح، حتى وإن "رأى الشعب ماشيا في أحلامه وهو ينام في حديقة"، منتظرا تأشيرةً تأخذه إلى بلاد أخرى أقلّ قسوة، هذا إن وجدت هذه البلاد أصلا.