المقاومة والظاهرة الاستبدادية
من القضايا المهمة التي تتعلق بالظاهرة الاستبدادية فعل المقاومة الذي يرتبط بالاستبداد ومواجهته، إلا أننا، في هذه المرة، نحاول أن نلفت الانتباه إلى ارتباط ظاهرة مقاومة الاستبداد بتلك التي تتعلق بمقاومة المحتل الغاصب، وذلك بمناسبة الأحداث الجسام التي تمر بها فلسطين، حينما تواجه أقسى الظواهر العنصرية الفاشية الاستيطانية، حيث تعتبر المقاومة من المسائل الحيوية في معركة التغيير الكبرى، ذلك أن إسرائيل، بالظاهرة الاستيطانية التي تمثلها، هي خلاصة سلبيات التاريخ الغربي الأوروبي، وخصوصا حينما يرتبط الأمر بالفكرة العنصرية، والحالة الامبريالية والقومية الضيقة المتطرّفة والتعصب الديني المأفون. ووفق هذه النشأة المصطنعة والمشوهة، ظلت تلك الحركة الصهيونية ترتبط بحبل سرّي مع الحضارة الغربية، في سياقٍ يمكن أن يجعلنا نجزم أن الظاهرة العنصرية الاستيطانية لم تكن إلا صناعة غربية.
ومن ثم كانت تلك النشأة في سياق تدويل هذه القضية، والتي أتت على حقوق الشعب الفلسطيني، ودعمها الكيان المحتل ليستقوي ويغتصب، ويمثل حالةً صهيونيةً فوق السؤال والمساءلة؛ بينما حرصت تلك الدول الغربية على تجريد المقاومة من كل ما يمكّنها من مواجهة هذه المنظومة الاستيطانية، بتجريم فعل المقاومة نفسه، تحت عناوين كثيرة مراوغة من إرهاب، بما في ذلك دعمها الاستبداد بين دول المنطقة. وهكذا تكتمل الحلقة بين الاستيطان والاستبداد والمنظومة الدولية الراعية لهما، للقيام بدور وظيفي في حماية هذا الكيان الصهيوني، ودعمه بشكل مباشر وغير مباشر، وصناعة ما تسمى ظاهرة المتصهينين العرب الذين يلعبون دورا مباشرا في التطبيع أخيرا.
الدول الاستبدادية والسلطوية تكره وجدانيا، وكذلك واقعيا، ظاهرة المقاومة
هكذا يمكنك أن تفسّر كيف أن الدول الاستبدادية والسلطوية تكره وجدانيا، وكذلك واقعيا، ظاهرة المقاومة، ذلك أن الاحتلال الغاصب والاستبداد الطاغي ملة واحدة، بل هما يقومان على قاعدة حلف غير بريء، يقوم على حماية هذا المحتل الغاصب، برعاية نظم مستبدة غاصبة للسلطة، تواجه أي احتجاج عليها ولا تقبل الحساب. وتساعد على ذلك تشوهات كامنة وظاهرة في منظومة العلاقات داخل النظام الدولي. ويعتمد هذا الكيان الصهيوني الاستيطاني، في نشأته وحياته، على تلك التشوهات التي تؤدّي إلى حفظ كيانه واستمرار وجوده، بل وتمثل تواطؤا وغطاء لسياساته العنصرية وبطشه الذي يتخذ أشكالا متعدّدة، ليلتقي بالبطش مع أصحاب الأرض الأصلية بأصحاب السلطة الحقيقية من الشعوب. لا يمكننا بأي حال إلا أن نؤكد على تلك العلاقات المشبوهة بين تلك الثلاثية؛ نظام دولي يحقق مصالحه بتمكين النظم الاستبدادية والسلطوية في بلادنا، ومنظومة صهيونية تشكل نموذجا لمحتل استيطاني غاصب، يتعاون مع تلك الأنظمة، ويطبّع معها ضمن طبعته الأخيرة التي تحاول التمويه على أصل القضية وطمسها. يبدو ذلك واضحا في تلك العملية الكبرى التي قامت على قاعدة فك المنطقة وتركيبها لمصلحة هذا الكيان الصهيوني، ومواجهة كل الظواهر الاحتجاجية والمقاومة، ضمن ما عرفتا بالثورات العربية وموجة التغيير اللتين ما لبث أن تعاون هؤلاء جميعا على إجهاضهما بالمضادين للثورة وصناعتهم بدائل على أعينهم انقلبوا على ثورات الشعوب، محاصرة والتفافا.
غاية الأمر في هذا المقام هو التأكيد هنا على هذا المثلث، وكشف تلك الأنظمة السلطوية والاستبدادية التي كانت تعتاش، فترة، على ادعائها مناصرتها القضية الفلسطينية في معركتها الكبرى، ومبرّرة استبدادها تحت سقف القضية، وصولا إلى الأنظمة المطبعة، والتي هي إلى الصهيونية أقرب، بالحجة نفسها، القضية الفلسطينية، حيث تزعم محاولتها في حل تلك القضية الفلسطينية، وأن تطبيعها مع الاحتلال إنما لتحقيق هذا الهدف، وإن كانت، في الحقيقة، تعمل على تصفية القضية وطمسها.
من هنا كانت تلك الفكرة موضوعا لقصيدة جديدة للشاعر عبد الرحمن يوسف سماها "بيادة في الأقصى"، فكان فعل المقاومة يشكل بلاغةً في القول والفعل، للتأكيد على صلابة الموقف والصمود حيال كل الظواهر الطغيانية التي تواطأت بعضها مع بعض، ضمن هذه الحال التي تحكم هذه الحلقات الاستبدادية، وكان فعل المقاومة بحق يعبر عن طاقة فعل للتحرير والاستقلال، وهو ما يعني أن طاقات المقاومة إنما تقاوم الاستبداد، في أصله وفي مبناه وفي علاقاته، من داخل أو من خارج، من محتل غاصب أو حاكم مستبد طاغ. وبدت هذه الظاهرة ضمن أفعالٍ تؤكّد على مصالح الناس، وعلى معاشهم الذي تضرّر من جراء هذه الممارسات العنصرية بكل أشكالها، ومن خلال هذا المثلث.
المقاومة ليست كلمة تقال أو شعارا يرفع، بل هي عملٌ فعّال، يحمي الوطن ويحمي كرامة المواطن
مثلث الطغيان الرهيب والاستبداد المقيت والمحتل الغاصب الذي يقضم الأرض، وينتهك العرض، ويعتدي على المقدّسات، ويمارس كل أنواع الطغيان وسياساته، قتلا وتصفية لذلك المواطن الذي يذكّره بغصبه واحتلاله ضمن متوالية غصبٍ وطغيان احتل فيها الأرض، وانتهك فيها العرض، وأخيرا يغتصب البيت في حي الشيخ جرّاح. بدت هذه الظاهرة تتجسّد، وبدا الفلسطينيون يتحرّكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى، وبات هؤلاء ينظّمون فعلهم البليغ ضمن مقاومةٍ بالغةٍ راشدةٍ فاعلة، تقول للمحتل الغاصب "لا"، وتعاقبه على فعله، وتؤلمه كما تتألم، وتُخرج من جوف الألم ألف أمل، في ما يتعلق بأرض فلسطين.
حينما تتأمل فعل المقاومة تجد أوضح صورة له في الآلة الكهربائية، وأجهزة الطاقة المختلفة، والتي تملك داخلها قطعة إلكترونية دقيقة تسمى "المقاومة"، وظيفتها حماية الجهاز عند تعرّضه لتيار كهربائي أعلى من طاقته، قد يؤدّي إلى تدميره، حيث تتحمّل هذه القطعة النصيب الأكبر من الخطر، والذي قد يؤدّي إلى احتراقها، ولكن تحمي الجهاز، وتقوم القطعة الجديدة بالدور نفسه. هكذا تنتدب هذه القطعة في الجهاز لحمايته، والقيام بالمقاومة الفاعلة والناجزة، مثلما تفعل المقاومة في الحفاظ على كرامة الأمة، حيث تواجه الحمل الزائد من طغيان محتل، أو مستبد متحكم، وتقوم بأسمى وظيفة، حينما تضحّي بنفسها من أجل الحفاظ على حياة الكيان.
الاحتلال الغاصب والاستبداد الطاغي ملة واحدة، بل هما يقومان على قاعدة حلف غير بريء
هذا المعنى المقاوم هو ما يجعلنا نؤكد على بلاغة فعل المقاومة، وعلى بلوغ هدفها. ولعل الأمر الذي يتكرّر في الهتافات "بالروح والدم نفديك يا أقصى" أو "نفديك يا قدس" أو "نموت .. نموت وتحيا فلسطين"، وما يطابقه على الأرض من أفعال، يؤكد أن المقاومة ليست كلمة تقال أو شعارا يرفع، بل هي عملٌ فعّال، يحمي الوطن ويحمي كرامة المواطن، واستقلاله على كامل أرض فلسطين، في رابطةٍ لا تنفصم، لتحقق بقاء الوطن وإحياء القضية في كل مقام ومكان. إن ما نشهده من تسطير ملاحم المقاومة في حي الشيخ جرّاح وحول المسجد الأقصى وبيت المقدس وأكنافه، وما يؤدّيه الفلسطينيون في الضفة وفي الأراضي المحتلة وأرض غزة العزة إنما يشكل منظومة مقاومة لا تخطئها عين، ضمن حالة تماسكٍ لا يُنكرها إلا جاحد. يموت الفلسطيني من أجل فلسطين، ويضحّي بكل ما يملك بشكل فعلي، ليعبر بذلك عن نمطٍ قد يستعصي على الكيان الاستيطاني الصهيوني فهمه، أو الغرب المتعجرف استيعابه.
الأنظمة الاستبدادية إذ تهادن الغاصب والمستبد، فإن الشعوب تعبر عن مقال آخر، وعن مقام مضاد في مقاومة كل الظواهر الطغيانية من احتلال غاصب أو من استبداد مقيم، أو نظام دولٍ متعجرفٍ يتواطأ مع الطغاة والمستبدّين. إنها المعادلة التي تتعلق بالقدس بوصلةً ووجهةً في مقاومة كل احتلال وطاغية ومستبد. إنها بلاغة فعل المقاومة، وهم إلى هدفهم لبالغون.