المقاومة القانونية ولعبة القط والفأر في تونس

01 سبتمبر 2024
+ الخط -

إذا كنت تونسياً، وتكتب في صحيفة راقية مثل "العربي الجديد"، فأنت مضطرٌّ إلى التوقف أسابيع عند الوضع السياسي الذي يطوف حالياً حول الانتخابات الرئاسية المقبلة. لهذا، المطلوب من القرّاء الصبر والانتباه، لأن ما يحدُث أشبه بدرس تطبيعي مختلف عما جرى ويجري في دول عربية أخرى حدثت فيها محاولات فاشلة للخروج من الاستبداد واقتحام عتبة الديمقراطية. وإذا أسدل الستار عن تلك التجارب التي قبرت في مهدها، فإن "المقاومة" في تونس مستمرة.

اعتبر معظم الطيف السياسي التونسي المعارض ما أحدثه الرئيس قيس سعيّد يوم 25 يوليو/ تموز 2021 "انقلاباً مدنيّاً"، لأنه عطّل الهياكل والمؤسّسات الدستورية، ووضع قواعد لعبة جديدة يتحكّم فيها شخص واحد، هو الرئيس سعيّد. لكن المساندين للرئيس وصفوه "تصحيحاً لمسار الثورة"، واعتبروه عملاً ضرورياً لخوض "حرب تحرير جديدة". وبناء عليه، تراجعت الحرّيات بنسق سريع، وعاد الحديث عن "النضال" من أجل استعادة المكاسب التي حصل عليها التونسيون بفضل الثورة.

أمام هذا الوضع، وجد المعارضون أنفسهم أمام خيارات ثلاثة غير عنيفة. يتمثل السيناريو الأول في إحداث الفراغ حول النظام، من خلال الانسحاب من الفعل السياسي عبر مقاطعة الانتخابات والمجالس المنبثقة عنها، ثم تبيّن أن هذا الاختيار لم يكن موفقاً، ولم يغيّر من المشهد شيئاً. السيناريو الثاني تحريك الشارع وتجييشه ضد قيس سعيّد، لكن المحاولة فشلت أيضاً، نظراً إلى المسافة التي تفصل المعارضة عن عموم التونسيين، فما حصل في بنغلاديش غير قابل للتكرار في تونس. السيناريو الأخير هو "المقاومة القانونية" الذي دعا إليها بعضهم، ومن بينهم المحامي والقاضي الإداري السابق أحمد صواب. يستند هذا الأسلوب على الاستفادة من "الثغرات" القانونية التي لم ينتبه إليها ماسكو زمام الأمور. وبدأت نتائج هذا الاختيار تبرُز أخيراً، فالسلطة فوجئت بتزكية عشرة من أعضاء البرلمان الموالي للرئيس سعيّد الوزير السابق في عهد الرئيس بن علي، منذر الزنايدي. ثم كانت المفاجأة الثانية مع صدور أحكام صدرت عن المحكمة الإدارية التي لم تشملها خطة إخضاع السلطة القضائية. وهي أحكامٌ أنصفت عدة مرشّحين جرى إقصاؤهم، منهم عبد اللطيف المكي ومنذر الزنايدي وعماد الدايمي. وبفضل ذلك، سقط قرار المنع الذي لجأت إليه "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات"، وبذلك تغيّر المشهد ومعه تغيّر الرهان، وقد تنقلب الحسابات.

يُفترض أن يجد الناخب التونسي نفسه يوم 6 أكتوبر أمام اختيارات مختلفة، بعد أن عادت العائلات السياسية الكبرى المتنافسة (والمخاصمة في الآن نفسه) مع قيس سعيّد إلى السباق الرئاسي. وتتمثل في التجمّعيين (الحزب الحاكم في عهد بن علي) والإسلاميين، إلى جانب القوميين بعد سعي حركة الشعب نحو التملّص من مواقفها السابقة المؤيدة لمسار 25 يوليو، فالتنافس المباشر المفتوح الذي تحاول السلطة إلغاءه أو التقليل من حجمه عاد بقوة من الشباك بعد محاصرته من الباب.

هناك احتمال الالتفاف على قرارات المحكمة الإدارية، ورفض تطبيقها. وهو أمرٌ سيكون سابقة في تاريخ القضاء التونسي، نظراً إلى تعارضها مع القانون. لقد أكد رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، فاروق بوعسكر، أن الهيئة هي "الجهة الدستورية الوحيدة التي ائتمنها الدستور على ضمان سلامة المسار الانتخابي". وأثار هذا التصريح ردود فعل واسعة في الأوساط القانونية والسياسية في تونس وحتى خارجها.

في حال قيام السلطة بذلك، سيتضح للجميع أن ما يجري لا علاقة له بالقانون أو الدستور، وإنما هي عملية سياسية مكشوفة، تهدف إلى الانفراد بالحكم، وعدم تسليمه إلى من يختاره الشعب في أجواء تنافسية وشفافة. يعني ذلك وضع المعارضة في غرفة موصدة الأبواب والنوافذ. عندها سيكون لكل حادثٍ حديث، لكن الذي سيذكره التاريخ أن أستاذاً في القانون الدستوري في تونس تمكّن من الوصول إلى منصب الرئاسة بطريقة ديمقراطية شفافة، وتعهد باحترام إرادة الشعب، ثم رفض أن يغادر بطريقة ديمقراطية. ... فهل سيرضى أن يُقال عنه ذلك؟!

266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس