المغرب وفرنسا... ورقةُ حقوقِ الإنسان المحروقةُ
تتّجه العلاقات المغربية الفرنسية إلى مزيد من التدهور، بعد أن رفض المغرب المساعدات الفرنسية عقب الزلزال العنيف الذي ضرب إقليم الحوز الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول). وإذا كان من السابق لأوانه الحديث عن وصول البلدين إلى نقطة اللاعودة، إلا أنه يمكن المجازفة بالقول إن هذه العلاقات لن تعود إلى سابق عهدها لسبب بسيط: فقدان باريس ورقةَ حقوق الإنسان التي كانت ترفعها في وجه الرباط كلما ساءت العلاقات بينهما. ولفهم أهمية هذه الورقة ومفعولها في علاقات البلدين، لا بأس من الرجوع قليلا إلى الوراء.
مع نهاية الثمانينيات، تصاعدت الضغوط الفرنسية على المغرب على خلفية تدهور أوضاع حقوق الإنسان، وبالأخص أوضاع المعتقلين السياسيين والعسكريين. وبلغت هذه الضغوط ذروتها حين كانت لجنةٌ مغربية فرنسية مشتركةٌ بصدد وضع اللمسات الأخيرة لتنظيم ملتقى ''زمن المغرب'' (1990)، لتفاجأ بتنظيم منظّمات وفعاليات حقوقية مغربية وفرنسية ملتقى مضادًا تحت اسم ''زمن حقوق الإنسان في المغرب''، بغاية فضح ما كانت تعرفه حقوق الإنسان من انتهاكات على عهد الملك الراحل الحسن الثاني. وقد أفضى ذلك إلى فشل ملتقى ''زمن المغرب''، وتصاعد مطالب العفو عن المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين والقيام بإصلاح سياسي شامل. وسيكون صدورُ كتاب ''صديقي الملك'' للصحافي الراحل جيل بيرو بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس في العلاقات المغربية الفرنسية، فقد خلّف صدوره ارتجاجا إعلاميا وسياسيا في المغرب، وشهدت العلاقات بين البلدين توترا كبيرا. وفي نهاية السنة (1990)، نجحت فرنسا في بناء حزام من الضغوط على المغرب، على خلفية ملفّ حقوق الإنسان، خصوصا حين أكَّد كاتب الدولة الفرنسي في الشؤون الثقافية الدولية أمام الجمعية الوطنية، آنذاك، على ''ضرورة احترام المغرب حقوقَ الإنسان، وتنفيذ المعاهدات الدولية ذات الصلة (..)''.
بعد تراجع الزخم الحقوقي الدولي الذي رافق نهاية الحرب الباردة، ستأخذ العلاقات المغربية الفرنسية منحىً أكثر براغماتية، إذ صار الاقتصاد يتصدّر أولوياتها، فاتسع حجم الاستثمارات الفرنسية في المغرب، وأصبحت فرنسا ثاني أكبر شريك تجاري للمغرب بعد إسبانيا. وعلى الرغم من أن ورقة حقوق الإنسان ظلت تطلّ بين حين وآخر من أوساط حقوقية، غير حكومية، ومحسوبة على اليسار الفرنسي، إلا أن ذلك لم يكن له بالغ الأثر بعد أن جرت مياه كثيرة تحت الجسر في المغرب وفرنسا والعالم. لكن حدثا سيغيّر المعادلة بالمرّة ويقلبها، ربما إلى الأبد، لصالح المغرب في هذا الصدد؛ ففي عام 2015 فوجئ الرأي العام المغربي بخبر توقيف الصحافيين الفرنسيين، إيريك لوران وكاترين غراسْيي، في باريس متلبسيْن بمحاولة ابتزازِ الملك محمد السادس بعد مطالبتهما، محامي القصر، بمبلغ ثلاثة ملايين يورو مقابل عدم نشر كتاب عن الملك، مع العلم أن الصحافيين كانا قد نشرا كتابا قبل ذلك (2012) عن سيطرة القصر على الاقتصاد المغربي.
وضعت واقعة الابتزاز تلك ما كتب ويُكتب عن المغرب، بشأن حقوق الإنسان، موضع شك بالنسبة الرأي العام المغربي. ونجحت السلطة في المغرب، بذلك، في تجريد فرنسا من ورقة في غاية الأهمية. ولم يعد للتقارير التي تُصدرها جهاتٌ فرنسية في هذا الصدد الأثر الذي كان لها نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات. ولذلك لم يكن إقدام الرئيس الفرنسي، ماكرون، على توجيه خطاب إلى المغاربة، بعد الزلزال، إخلالا بالأعراف الدبلوماسية المعمول بها فقط، بقدر ما عكس كذلك مخاوف الدولة العميقة في فرنسا من تحرّر المغرب من هيمنتها، لشعورها بأن ورقة حقوق الإنسان لم تعد مُجدية، بعد أن فضحت وقائعُ إقليمية ودولية انتهازية فرنسا، والغرب عموما، وزيف ادّعائهما بشأن الدفاع عن حقوق الإنسان.
ومع إصرار المغرب على وضع قضية الصحراء على رأس أولويات سياسته الخارجية، وإصرارِ فرنسا، في المقابل، على الحفاظ على ''حياديتها'' في هذه القضية بحرصها على عدم إثارة حفيظة الجزائر، الداعم الرئيس، لجبهة بوليساريو، تتّجه العلاقات المغربية الفرنسية إلى مزيد من الـتأزُّم، لكن مع فارق أن المغرب نجح في تجريد فرنسا من أهم ورقة في علاقتها به.