المغرب وفاتح مايو الذي كان
في وقتٍ كان يُتوقع أن يشهد تخليدُ عيدِ العمال (فاتح مايو/ أيار) في المغرب تعبئة خاصة، بالنظر إلى الاحتقان الاجتماعي الذي تشهده البلاد على خلفية ارتفاع أسعار المواد الأساسية والمحروقات، وبلوغ التضخّم معدّلات مُقلقة، وتزايد مظاهر الفقر والهشاشة، مرّت معظم المسيرات التي شهدتها المدن المغربية يوم الإثنين الماضي باهتةً، ما يستدعي أسئلة كثيرة بشأن ضعف إقبال العمّال المغاربة على مسيرات فاتح مايو لهذه السنة.
لا يبدو ذلك بعيدا عن السياقيْن الداخلي والدولي، المتّسميْن بتراجع تأثير النقابات والوسائط الاجتماعية الأخرى على الطبقة العاملة، وتقلصِ كتلة هذه الطبقة بسبب التحوّلات العميقة التي تشهدها الرأسمالية المعاصرة في علاقتها بأسواق العمل، وعدم ارتقاء مضامين الاتفاق الاجتماعي الموقّع بين الحكومة وأرباب العمل والنقابات لتطلّعات العمال، والاختلالِ البيِّن في علاقات القوة بين الرأسمال الدولي العابر للحدود والنقابات التي فقدت الكثير من قوتها وقدرتها على التحشيد والتعبئة والتأثير في الرأي العام.
لسنوات طويلة، شكّل عيد العمّال في المغرب فرصة للطبقة العاملة والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية مناسبةً سنويةً للاحتجاج على سياسات الحكومات المتعاقبة، وفي مقدمتها سياسة التقويم الهيكلي التي انخرط فيها المغرب، مُستَهلَّ الثمانينيات، بضغط من المؤسسات المالية الدولية، والتي قامت على أولوية التوازنات المالية على التوازنات الاجتماعية. كذلك كان فاتحُ مايو مناسبة لرفع مطالب إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين إلى الوطن، والقيام بإصلاح دستوري وسياسي شامل، وبناء دولة الحق والقانون واحترام حقوق الإنسان. ولا شك أن وجود قياداتٍ حزبيةٍ ونقابيةٍ كبيرة ومحترمة كان يصنع الفارق في المشهدين السياسي والنقابي. أكثر من ذلك، لم تكن التعبئة الاجتماعية تقتصر، فقط، على الحواضر والمدن الكبرى؛ ففي أحيان كثيرة، كان ''المغرب غير النافع'' يصنع الحدث في مسيرات عيد العمّال. فمثلا، خلال الاحتفال بعيد العمال (1994) في مدينة الراشيدية (جنوب شرق المغرب) رفع ناشطون في الحركة الأمازيغية لافتاتٍ، مكتوبة بالأمازيغية، عبّروا فيها عن تضامنهم مع عمّال ''جبل عوَّام''، الذين كانوا يخوضون إحدى أشرس المعارك النقابية في تاريخ المغرب، ومطالبتِهم باحترام الحقوقِ النقابية، لا سيما حق الإضراب وتدريس اللغة والثقافة الأمازيغيتين. وعلى الرغم من اعتقال هؤلاء الناشطين ومحاكمتهم بعد ذلك، إلا أن الحدث كانت له ارتدادات سياسية على خلفية المشاورات الجارية، آنذاك، بين القصر وأحزاب المعارضة، ما كان له أثره، بعد ذلك بحوالي شهرين، في الإفراج عنهم في إطار العفو الذي أصدره الملك الراحل الحسن الثاني عن المعتقلين السياسيين (يوليو/ تموز 1994).
كان فاتح مايو أشبه باستعراض قوّة يقوم به العمّال المغاربة، بمختلف انتماءاتهم النقابية والسياسية، أمام الحكومة وأرباب العمل، من خلاله يرفعون أصواتهم مطالبين بتحسين ظروف العمل، والزيادة في الأجور، ومراجعة التشريع الاجتماعي واحترام الحقوق والحرّيات النقابية. وقد كان لهذه الدينامية أثرها النسبي في دفع النظام المغربي إلى توسيع قاعدة التوافق السياسي مع أحزاب المعارضة. وفي هذا الصدد، شكّل ''الحوار الاجتماعي'' بين الحكومة وأرباب العمل والنقابات آلية رئيسة لتغذية هذا التوافق، فبعد الإضراب العام الذي دعت إليه الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في فبراير/ شباط 1994، دعت الحكومة إلى حوار اجتماعي امتد إلى ما بعد مسيرات فاتح مايو من السنة ذاتها، إلى أن توصّلت، بعد جلسات طويلة، إلى اتفاقٍ مع أرباب العمل والمركزيات النقابية يقضي برفع الحد الأدنى للأجور في القطاعين العام والخاص.
مؤكّدٌ أن فاتح مايو يمثل وقفة سنوية دالة بالنسبة للعمال في العالم، يجدّدون من خلالها وعيهم بحقوقهم ومعاركهم النضالية. بيد أن ما تشهده المجتمعات المعاصرة من متغيّرات، وبالأخص في ما يرتبط بتراجع الأشكال التقليدية للتحشيد والتعبئة وصناعة الرأي العام، لا شك أنها تسائل الفعل النقابي في المغرب، بعد تراجع النقابات المعروفة وصعود التنسيقيات التي أضحت فاعلا رئيسا في حركة الاحتجاج الجديد التي يبدو أن فاتح مايو لا يعني لها الكثير.