المغرب... درسٌ في التضامن الشعبي
ليس من المناسب، وربما ليس من اللائق، الإتيان، على هامش المحنة العصيبة التي يجتازها المغرب جرّاء الزلزال العنيف الذي ضرب إقليم الحوز، الجمعة الماضي، وراح ضحيّته آلاف القتلى والجرحى والمشرّدين، على كلامٍ من قبيل مسؤولية الدولة والحكومة والنخب المحلية عن الوضع الاجتماعي المتردّي في الإقليم. ذلك كله ينبغي أن يُترك إلى حينٍ، إلى أن تلتئم جراح المنكوبين والمتضرّرين من الزلزال وتداعياته.
ما يلفت الانتباه ويستوجب الوقوف عنده حملة التضامن الشعبي الواسعة مع ضحايا هذا الزلزال، فقد فاجأ المغاربة، بمختلف فئاتهم، العالم بحملةٍ غير مسبوقة في هذا الصدد، انطلقت من كل المدن والحواضر والبلدات في اتجاه الإقليم المنكوب. وضجّت مواقع التواصل الاجتماعي ومنصّاته بمشاهد مؤثرة، عكست روح التضامن مع الضحايا ووثّقت بعض فصوله. وعلى مدار الأيام الفائتة، شهدت المراكز التجارية الكبرى ومحلات البقالة، على امتداد التراب الوطني، إقبالا منقطع النظير لاقتناء كل ما يلزم لمساعدة المتضرّرين من الزلزال على مجابهة المأساة والحدّ من تداعياتها. وتشكّلت لجان ومبادرات وشبكات أهلية من المتطوّعين، بالتنسيق مع السلطات المعنيّة ووحدات التدخل المتخصّصة، من أجل جمع التبرّعات والمساعدات المالية والعينية التي شملت الخيام والأسِرّة والأغطية والملابس والمواد الغذائية والطبية والأدوية ومياه الشرب، وإيصالها إلى هؤلاء المتضرّرين في قُرى الحوز ومداشره النائية. هذا من دون إغفال حملات التبرّع بالدم الواسعة التي انطلقت صباح يوم السبت، وشهدت هي الأخرى إقبالا شديدا. وشوهدت قوافل الشاحنات وهي تغادر في اتجاه الحوز في مشاهد ستصبح جزءا من التاريخ الاجتماعي للكوارث الطبيعية في المغرب المعاصر. وكان لافتا، ودالّا في الآن نفسه، حجمُ التضامن الشعبي مع الضحايا في مدنٍ مثل الحُسيمة والناضور والدَّرْيوش وسيدي إفْني وطانطان والعيون والدَّاخْلة.
في الصدد ذاته، خفّف هذا التضامنُ، نسبيا، من الضغوط والأعباء التي تحمّلها، منذ اللحظات الأولى للفاجعة، أفرادُ الوقاية المدنية والأمن الوطني والقواتُ المسلحة الملكية والدركُ الملكي والكوادرُ الطبية والمتطوّعون من منظمّات المجتمع المدني وشبكاتِ العمل الخيري، الذين كانوا يسابقون الزمن من أجل إنقاذ المفقودين وتقديم الإسعافات الأولية لهم وإيوائهم. فقد كان هولُ الكارثة وفداحة الخسائر يستدعيان تضافر كل الجهود الحكومية والأهلية لإغاثتهم والتخفيف عنهم. وقد أعادت حملةُ التضامن الشعبي مع الضحايا إلى الأذهان واقعة سقوط الطفل ريّان في بئر ضيقة، قبل حوالي سنة ونصف السنة، التي حبست الأنفاس، قبل أن تؤول إلى نهايتها المأساوية المعلومة. وقد لا يكون مبالغة القول إن تلك الواقعة شكلت ما يمكن تسميته نوعا من المأسسة العفوية للتضامن الشعبي في المغرب.
معلوم أن الكوارث الطبيعية تعزّز الروح الوطنية داخل المجتمعات وتُقوّي التضامن بين مكوناتها، ولا سيما داخل المجتمعات التي لا يزال التضامنُ الاجتماعي التقليدي حاضرا فيها بقوةٍ، على الرغم من مظاهر الحضريةِ التي تتسم بها. ما أبداه المغاربة من حسّ تضامني عالٍ في فاجعة الحوز يكشف استمرار الأشكال التضامنية التقليدية في تغذية التماسك الاجتماعي بالتوازي مع الأشكال العصرية التي تؤكّدُها سوسيولوجيا الطبقة الوسطى الحضرية، فصعودُ قيم الفردانية والعولمة، وانتشارُ نمط الحياة المرتبط بهذه الطبقة، وتراجعُ تأثير أشكال التنظيم الاجتماعي التقليدي (القبيلة، العائلة الممتدّة...)، عوامل كلها لم تجتثّ التضامن التقليدي من بنية المجتمع المغربي. وهو ما يُعدُّ تحدّيا في حد ذاته أمام العلوم الاجتماعية.
في الختام، يمثّل التضامن الشعبي مع ضحايا زلزال الحوز رصيداً آخر في الخبرة المغربية في مجابهة الكوارث الطبيعية والتعاطي مع مخلّفاتها الإنسانية والاجتماعية بأقل الخسائر الممكنة، خصوصاً في المناطق التي تتسم بوعورة تضاريسها ومسالكها، مثل معظم المناطق التي تمتدّ على سلسلة جبال الأطلس الكبير، بما يحيل إليه ذلك من تقسيم مفترضٍ للأدوار بين الدولة والحكومة والنخب من جهة وشبكات ومنظمّات العمل المدني والأهلي من جهة أخرى.