المغرب العربي لن يُحيي العظام وهي رميم
مرّت ذكرى تأسيس اتحاد المغرب العربي قبل أيام (17 فبراير/ شباط 1989) من دون أن تثير أي اهتمام، كما أن وسائل الإعلام الرسمية لم تشر هنا أو هناك إلى هذه الذكرى. وقد لا تعرف الأجيال الشابة تماما أن هناك منظمة إقليمية تأسّست ذات يوم، وهي تحمل آمالهم وتطلّعاتهم، ولها مقرّ وأمين عام وموظّفون وميزانية، وتُصدر تقارير سنوية وتشارك باسمهم في محافل دولية عديدة. كانت هذه الذكرى، إلى سنوات قليلة، تثير اهتمام الجمعيات وتقام لها تظاهرات ثقافية ورياضية تجمع نخب البلدان الخمسة، فضلا على أنها كانت تشكّل محطّة مهمّة للنخب السياسية والمدنية من أجل تقييم المنجز رغم ضآلته.
رحل الأباء المؤسسون لفكرة المغرب العربي في خمسينيات القرن الفارط، وبلدانهم آنذاك لم تستقل بعد، ورحلت معهم كل تلك الآمال والطموحات الكبرى التي كانت تراودهم. ثم لحقهم قادة المنطقة الذين أسّسوا منظمة اتحاد المغرب العربي على شاكلته الحالية (زين العابدين بن علي، معمّر القذافي، الشاذلي بن جديد، معاوية ولد الطايع، الحسن الثاني)، وبعضٌ مما تحقق معهم جرى نسفه خلال العقود الأخيرة.
عادةً ما يعود بعضهم في تفسير مسارات التفكّك الذي مرّت به منظمة اتحاد المغرب العربي إلى النزاع الجزائري المغربي في قضية الصحراء الغربية، غير أن الأمر أعمق من ذلك بكثير، فقد كان هذا النزاع القشّة التي قسمت ظهر البعير، فللخلافات جذور عميقة، يعود بعضها إلى ذاكرة المنطقة حتى قبل الاستعمار الفرنسي. حين حلّت فرنسا مستعمرة على الجزائر لتنضم إليها تدريجيا كل من تونس والمغرب لاحقاً. لم تكن المنطقة تعبّر عن هوية موحّدة. كانت الصراعات المريرة بين الإيالات (الولايات بالتقسيم العثماني) الثلاث: إيالتان تتبعان السلطنة العثمانية، في حين كان الكيان الثالث مملكة تحكُمها السلالة العلوية منذ قرون. كانت نزاعات الحدود الهلامية في أوجها. وظلت ليبيا خارج تلك المدارات، فقد استفردت بها إيطاليا بشكلٍ مبكّر أيضاً. لقد وحّد الاستعمار لاحقا هذه المنطقة، حين جعلها تحت "حماية فرنسا". ظلّ المغرب العربي، حتى بعد الاستقلال ضمنيا، مكوّنا من هذه الكيانات الثلاثة، وظلّت ليبيا وموريتانيا على الهامش، وهو ما عمّق الشرخ ودفع رهانات الاستقطاب إلى أوجه، من أجل استلحاق الدولتين ودفعهما إلى الاصطفاف وفق محوري المغرب العربي: الجزائر من جهة والمغرب من جهة ثانية.
ليس من العيب التسليم بأن لا أسس تاريخية لشيءٍ يسمى مغرب عربي موحّد، ولكن لا شيء يمنع المغاربيين من توحيده في المستقبل
ظلّت كل القضايا الخلافية بين البلدين المذكورين ذريعة لجرّ هاتين الدولتين إلى تغذية حالة الاستقطاب تلك. استطاعت تونس أن تقف بصعوبة على الحياد، سواء إبّان حكم الحبيب بورقيبة أو زين العابدين، ولكن سرعان ما تدحرجت إلى حالة الاصطفاف تلك، خصوصا بعد الثورة. سارع الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة إلى انتهاز الذكرى الأولى للثورة، ليؤدّي بزيارة هنأ فيها الشعب التونسي بثورته... كانت تلك رسالة قوية لدعم الحاكمين الجدد في تونس على أمل احتوائهم وإبعادهم عن مدار المغرب، غير أن موقف الجزائر تغيّر جذرياً حين بدأ الرئيس السابق منصف المرزوقي يُبدي، في تصريحاته، بعض النقد للجزائر، حتى انتهى إلى أن يصنفوه مواليا للمغرب، خصوصا أن للرجل وشائج علاقات أسرية هناك.
غير أن الأمور سرعان ما تدهورت مجدّداً بين البلدان الثلاثة: قطعت العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والجزائر، وانخرط البلدان في حرب إعلامية ما زالت الشبكات الاجتماعية تغذّيها بشكل مؤلم. كما عمد المغرب إلى سحب سفيره في تونس إثر استقبال الرئيس قيس سعيّد من يسمّى وزير خارجية الجمهورية الصحراوية، على هامش انعقاد ندوة طوكيو الدولية حول التنمية في أفريقيا (تيكاد) التي انعقدت في تونس في أغسطس/ آب 2022. وشكّل هذا مفاجأة للجميع، باعتباره خروجا عن حالة الحياد التي ميّزت الموقف التونسي، وظلّت الأمور تتدهور بشكل مخيّب.
ليس من العيب التسليم بأن لا أسس تاريخية لشيءٍ يسمى مغرب عربي موحد، ولكن لا شيء يمنع المغاربيين من توحيده في المستقبل، وهذا ما كان يؤكّد عليه المرحوم هشام جعيّط أن الأمم إنجاز تاريخي وقد تظل بصدد التكوّن قروناً. ولكن من المحزن أن يخرّب المغاربيون كل ما بنته الأجيال السابقة بكثيرٍ من المشقّة والتردد. حاليا، لم يعد لدى شعوب المنطقة من أمل في قيام مغربٍ عربيٍّ موحّد، بل أملهم تجنّب حالة الاحتراب الداخلي بين هذه الدول والالتزام بالحدّ الأدنى من قواعد حُسن الجوار.