المغارب بدون "عروبة"
لعلّ الموضوع المثير والأثير في تفكير قطاعاتٍ معينةٍ من الأمازيغيين المغاربيين هو المتعلق بمفهوم التسمية... التي هي "جَعْلُ اسم عَلَم على مكان" أو التعيين المباشر لقضيةٍ أو وضع، أو الصفة الخاصة التي إذا ما تعلقت بالشخص أو بالمكان صارت له عنواناً ودلالة مع قدر من الرمزية من حيث الاستعمال والقراءة والتأويل. وتجري التسمية على كل لسان، لأنها بيان الشيء المراد، ولا يكون هذا الشيء دالّا على ما هو عليه إلا إذا شمله واحتواه وصار معروفا به، غير أن التسمية عندما تشتبك، وكثيرا ما تكون على هذا الحال، أو تتلون بالتوجه الأيديولوجي، وهي حتما تتلون به، فإنها تصبح مع الاستعمال رمزا ذا حمولةٍ حصرية، ثم تتحوّل في التعبير الدارج إلى "حقيقة" نهائية أو ثابتة، وحين ترتبط بالنضال السياسي، أو الاجتماعي، يقتضي الحال بالتحريض (وهو معادل التكرار والإلحاح على الشيء المطلوب تحقيقه) أن تكون من المهام التي تتطلب الافتداء أو الشهادة كأسلوبين غائيين مدفوعيْن لهما طابع المثال أو الهدف المرتجى.
وفي الدول المغاربية مستويات متنوعة متناقضة من الوجودين، المادي والمعنوي الحياتي، حظيت بتسميات مختلفة، بعضها ثبت في الزمن وبقي اسما لا مندوحة عنه للتعبير عن الشعور الخاص بوجوده وديمومته، والبعض الآخر تحوّل مع الزمن تحولاً تدريجياً، ثم استقر على دلالة للتعريف به ونعته كأسماء الدول المغاربية نفسها (الجزائر نوميديا، تونس تانيت أو ترشيش، ليبيا التي ذاع اسم البلاد في مرحلة بـTeheno، والمغرب موريتانيا الطنجية، وموريتانيا بشنقيط... إلخ). والقاعدة الأساسية أن التغيير مَسّ مختلف التسميات حسب التطور التاريخي، وَسُلطات الحكم المتعاقبة، والتنوع اللساني أيضاً الذي هو قِوَام التواصل، بل وسيلة من وسائل التمازج، أو الانصهار الكلي الذي قضي على هوياتٍ بالغة الفرادة عصية على الاندماج.
وفي ارتباط بهذا، يمكن القول إن من التسميات المُقَدَّرَة ما أثار مِن حوله، في مجال الصراع الأيديولوجي والسياسي، ما لا يُفهم من القيل إلا بفهم الدوافع التي تقف وراءه دافعة له للمجابهة أو متحاملة عليه لنقضه أو فارضة إياه، بدوافع عنصرية، غالبا ما تكون من الحوافز التي تحفز إثنيات ما لإثبات وجودها واكتساب الشرعية الضرورية التي يتطلبها ذلك الوجود في ميداني التواصل المعاملات.
سادت تسمية المغرب العربي بعد الحرب العالمية الثانية، وفي مرحلة النهوض القومي الذي ظهر قبلها واستفحل في كثير من المناطق العربية الرازحة تحت نير الاستعمار
وحدث في الجغرافية المغاربية أنْ وُجِدَت بعض التسميات الدالّة على أشكال معينة من الوجود لم تكن، في الواقع، إلا من تقدير من توخى ذلك للدلالة على شيء معين، أو لِوَسْمِه بما انتهى إليه من بَحْث، أو لمنحه بعض الاختصاص الذي يرتبط بموقعه، أو بأحواله العامة، أو باستراتيجية معينة تهدف إلى وضعه في نطاق خاص يسهل تعيينه ضمن تلك الاستراتيجية.
ولن أشير إلا إلى واحدةٍ من تلك التسميات، صارت، منذ عقود معينة، تثير حفيظة فئة من المشتغلين بقضايا الهوية المختلفة، وهم يدَّعون لها التَمَيُّز، في محاولة لابتعاثها ضمن التصوّر الخصوصي الذي يُزَكّي قِدَمَ تاريخها وعناصر وجودها الثقافي واللساني وظروف حياتها في محيط غريب أو مناوئ... يراه الناشطون، منذ فترةِ نضالهم الهويتي، بأنه المحيط العربي وقوميته الغالبة. فقد درج المشتغلون بالبحث الاستشراقي والسياسة بعامة أن وصفوا تلك المساحة الجغرافية التي تستوطنها البلدان المغاربية بـ"الغرب الإسلامي" لِمَوْقَعَةِ حدودها في اتصالها وانفصالها عن "الشرق الإسلامي"، ولو بصورة لاواعية أو ضمنية. وكان من المفهوم أن القائلين بهذه التسمية انطلقوا في ذلك من الاعتقاد الظاهر بوجود تراث هائل من المخطوطات ذات المحتوى الإسلامي في خزائن المكتبات الأوروبية، فكان الإقرار بوجوب تحقيقها، على النمط الذي تصوّروه للتحقيق، الإتيان بتحديد جغرافي اخترعه "ليفي بروفنسال" وقال بامتداده ابتداءً من ليبيا إلى المحيط الأندلسي، بما في ذلك الضفة الشمالية الغربية من البحر الأبيض المتوسط. وهو ينصرف، في تقديره، إلى مجموعة جغرافية (بالغة التناسق فيما بينها، وتقع على جانبي غربي البحر المتوسط، تمتدّ سواحله حتى سواحل الأطلسي، وتشمل شمال إفريقيا، وشبه جزيرة إيبيريا)... إلخ. ويمكن القول، بالإضافة إلى ذلك، إن التسمية عَنَت أيضا، ومند القرن الثاني عشر الميلادي، قبل بروفنسال (ت 1955م) بطبيعة الحال، تلك المناطق التي حازها المرابطون والموحدون والمرينيون انطلاقا من الصحراء وصولا إلى الأندلس.
التعبير الأمازيغي عن الغُبن التاريخي الذي أتي في أعقاب المحو، التاريخي أيضا، ما زال يحمل مظاهر أخرى للمطالبة بتحقيق مزيد من (الانتصارات) تُقَوي دَعَوَاتِها وسائط التداول التكنولوجية الفاعلة
أما التسمية المثيرة في التداول فهي التي يعتبرها بعض النشطاء الأمازيغيين، في مختلف الدول المغاربية، متعلقة بالعرب ومرتبطة بقوميتهم التي نسجوها بناء على معطياتٍ تاريخية ولسانية ودينية متراكبة للتميز الذي ارتضوه في إطار الابتعاث والتحرّر من الهيمنة الأجنبية على وجه العموم. وقد اقترن الاهتمام بهذه التسمية بالدعوة التي عَمّت بعض مناطق الدول المغاربية للمطالبة بالحقوق الثقافية واللغوية، ثم اكتست وجهاً أقوى في التعبير عن الهوية الخاصة، المقموعة حتى تكون سببا للابتعاث، الحاملة، في بعض الأحيان، مطلب الانفصال، أو الاستقلال، أو الخصوصية شديدة الانغلاق على الفرادة، غير أن الذي يُنسى، في مطلق الأحوال، أن تسمية "المغرب العربي" على وجه الخصوص، رغم أنها تنبني على روابط مهمة بشرية ودينية وتاريخية مشتركة، فضلاً عن العادات والتقاليد، لم تترسّخ، إن كانت قد ترسّخت بالفعل، إلا في الفترات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، من ناحية، والنهوض القومي الذي ظهر قبلها واستفحل بعدها في كثير من المناطق العربية الرازحة تحت النير الاستعماري الفرنسي والإنكليزي... إلخ. وكان من البادي أيامئذ أن سكّان الدول المغاربية يشكلون قوة اقتصادية وسياسية وبشرية تقارب ثلاثين في المائة من مجموع سكان باقي الدول العربية. يُضاف إلى ذلك أن المنطقة تمتدّ، كما هو معروف، من الجنوب المتوسطي إلى غرب الأطلسي، حتى عرفت على نطاق واسع أيضا بشمال إفريقيا.
لا يمكن، في علاقة بذلك، التغافل عن التأثير السياقي الذي ارتبط بعامليْن: الدعوة إلى بناء تصور هُوِّيَتي يصوغ، أو يعيد صياغة، مفهوم (الوطن القومي، تَمَازْغا) بالإضافة إلى "مِعْيَرَةِ" اللغة (تيفيناغ) وإكسابها قدرة على التداول معرفيا وتواصليا. أما العامل الثاني فكامنٌ في التوجّه الإنساني المرتبط بالديمقراطية، والساعي إلى صون حقوق الإنسان والدفاع عن الأقليات المهمّشة، أو المقموعة، والاعتراف الإنساني والقانوني والحقوقي بـ"الشعوب الأصلية". وفي العاملين معا، نفحات من توجه شبه "قومي" تعلوه صفات من التميز، كما تخترقه دعوات منغلقة تعادي القومية العربية وتنعتها بالعرقية لهضم حقوقها، فيما هي تمجد الماضي "العرقي" وتبتعث أمجاده من الضَّبَائر التاريخية التليدة.
وقد فهمت السُّلطات الحاكمة، ولو بعد فترة قَوِيَ فيها النضال الأمازيغي، وتبلورت، على نحو ما، مطالبه القصوى، أنها أمام اختيارين: أولا، الانصياع بوتيرة مُقَدَّرة وبجرعات محسوبة للمطالب الملحة المعلنة في الفضاء الديمقراطي العام وبأشكال ووسائط مختلفة من الإعلان والدفاع أو الترافع، أو (ثانيا) العمل التقليدي بالقمع الذي تشهره في وجه جميع الاختيارات العلنية والسرّية المعروضة. هذا مع التأكيد أن المغرب والجزائر كانتا من أكثر الدول المغاربية معاناة في ذلك من حيث المطالب وكذا من حيث المواجهة.
تسمية "المغرب العربي" رغم أنها تنبني على روابط مهمة بشرية ودينية وتاريخية مشتركة، فضلاً عن العادات والتقاليد، لم تترسّخ
من هنا، كانت سياسة الامتصاص التدريجي بعد أن انتهت إلى الاعتراف بكثير من الحقوق الصغرى، إذا جاز التعبير، التي كانت، طوال سنوات، مدار العمل والنضال الأمازيغي طلبا للاعتراف بها وتأكيد شرعيتها. غير أنني ما زلتُ ألاحظ، وربما على نحو أكثر ظهورا، أن التعبير الأمازيغي عن الغُبن التاريخي الذي أتي في أعقاب المحو، التاريخي أيضا، ما زال يحمل مظاهر أخرى للمطالبة بتحقيق مزيد من (الانتصارات) تُقَوي دَعَوَاتِها وسائط التداول التكنولوجية الفاعلة، الاجتماعية وغير الاجتماعية، وأراها تعمل أكثر على تحديد مطالبها في أشكال رمزية ذات بعد خاص، كالمطالبة (والعمل أيضاً) بإعادة كتابة التاريخ الأمازيغي المحلي من أجل "إحقاق" التركيبة الخاصة للتكون الاجتماعي في البلدان المغاربية... فلا يقصد بذلك، بطبيعة الحال، إلا الاعتراف بالتاريخ الذي لم يكتبه الأمازيغ في رقعة جغرافية كبيرة، شهدت تطورات متنوعة، ومرت بها ثقافات مختلفة واندمجت فيها أكثر من حضارة.
إن تحميل شكل من العداوة، المبنية على التعارض القومي، لأية تسمية مهما كانت أبعادها (المغرب العربي مثلا) لا قيمة له في مجالين متداخلين: الأول، على مستوى الهوية، لأنها أصبحت بفعل التطوّر التاريخي مندمجة متحوّلة، لا يمكن الاعتبار بصفائها المُقَدَّر عرقيا وإثنيا، بل ولا يفيد ذلك إلا في التعبير العنصري عن الفرادة والأحقّية المرتبطنين بأوهام الثبات والانغلاق. والحال أن لا وجود لتسمية صحيحة، وإنما تكون مقدّرة، وفي أحيانٍ كثيرة، اعتباطية في علاقة الدال بالمدلول، كما نَبَّهَ إلى ذلك بعض اللسانيين. وأما المستوى الثاني فأراه في "المطالب القُصْوى" التي أصبحت، بفعل الإجراءات التي أقدمت عليها بعض السلطات الحاكمة، على محدوديتها ربما، بدون مدلولٍ إلا إذا كان المقصود بالمدلول، وهنا الإرادة السياسية والأهداف المرسومة، الانخراط في حومة الصراع السياسي والأيديولوجي من باب التطرّف. والمعلوم أن ساحة الصراع في مختلف الدول المغاربية محكومة أساساً بما يمكن نعته بـ"الديمقراطية التحكمية"، أي حيث لا ديمقراطية حقيقة، "ولو على المقاس" (حسن قرنفل)، يكون بمقدورها، في الوقت الحالي، اعتمادا على سياسات رشيدة ومُواطِنَة، احتواء مظاهر التنوع الثقافي والاختلاف الفكري والإنساني أو الهُويتي، من خلال الحوار وابتغاء السلم الاجتماعي بديلاً لمختلف أشكال القمع والعنصريات القاتلة. فهل يمكن الاستنتاج أن غياب الديمقراطية قد يكون سبباً وجيها للمطالبة بالانفصال؟