المعركة على سلطة الثقافة

15 ديسمبر 2022

(نجا المهداوي)

+ الخط -

أدّت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة إلى انقسام بين المعسكرين في كل القضايا تقريباً. لم تنج الثقافة من هذه الحرب، وكانت المكارثية في الولايات المتحدة التي لاحقت المثقفين اليساريين وتجسّست عليهم، وملاحقة الكتاب المنشقّين في الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الاشتراكية ومعاقبتهم واعتقالهم التعبير الأبرز عن هذه الحرب، فكان على الطرفين تحصين العقول من الفيروس المضرّ الذي يمكن أن يأتي من الثقافة الأخرى المعادية. وقد أعطى الصراع أهمية للثقافة بوصفها الأداة التي يمكن أن تنتج بيئة للأفكار التي تؤثر في عقول الناس، وتتحوّل إلى تأثير واختراق سياسي.

وإذا كان انتهاء الحرب الباردة قد جعل معركة الثقافة أقل حدّة بين المعسكرين بالمعنى السياسي، فإنه جعلها أكثر حدّة على المستويين، القيمي والهوياتي، على مستوى العالم.

يعيد الصراع المستمر على الثقافة التأكيد على أهميتها بوصفها سلطة تنتج بيئة حاضنة وروابط وخلفية ملائمة تؤثر عميقاً في تحولاتٍ مستهدفة بالمعنى السياسي، فلا يربط بين السياسة والثقافة روابط خلفية غير مباشرة فحسب، بل وروابط مباشرة أيضاً، بوصف السياسة تتأثر بالثقافة، كما تؤثّر بها، فلم يعد الصدام الثقافي مسألة ثقافية، إنما أصبحت مسألة سياساتٍ فعلية، وهي جزء أساسي من عالم اليوم، فقد ازدادت أهمية الثقافة في قضايا كثيرة، وباتت مسألة حاسمة وأساسية في سياسات الهوية، والتي تعيد التجمّعات اكتشافها بوصفها لاصقا أساسيا للتجمّعات الوطنية أو ما تحت الوطنية.

لم يعد الصدام الثقافي مسألة ثقافية، إنما أصبحت مسألة سياساتٍ فعلية

عاشت الثقافة العربية كغيرها حالة الصراع، لكنها عاشتها على مستويين: الأول، بين ثقافتين تستهدفان مستقبلين مختلفين: تحاول الأولى تكريس الواقع المزري القائم بوصفه أفضل الممكن، وتحاول الثانية الدفاع عن إمكانية إنتاج واقع أفضل ومستقبل يدافع عن القيَم والحرية بوصفها الأساس لمستقبل أفضل. المستوى الثاني، وهو الصراع الثقافي بين سلطات من الطينة ذاتها، كل ما تقوم به هو الاستعانة بأقلام تدافع عن واقعها المزري في مواجهة واقعٍ مزرٍ آخر، على اعتبار أن هذا الصراع امتداد فجّ للصراع السياسي، ما يجعل الثقافي يعمل بوقاً للسياسة. وهنا لا يمكن الحديث عن مشروعين للمستقبل، بل عن دفاع شرس عن سلطةٍ سيدة تستخدم المثقفين في الدفاع عنها في حربٍ ثقافية. وتعتمد هذه المعارك على أوهام المثقفين، وعلى ما تعانيه الثقافة العربية من عدم تأسيس سلطتها الخاصة، ما جعل المثقف يحيا وعينه على سلطة السياسي، ويعمل على ربط أي مشروعٍ ثقافيٍّ بمشروع سياسي، ليعدّل من الاختلال المائل بشكل كبير لصالح السياسة، وليجد سلطته من خلال الارتباط بمشروع سياسي، يكون حاملاً لمشروع ثقافي.

ولعدم حاجة السلطات العربية للمشاريع الثقافية الجدّية، وجد المثقف نفسه يعاني من الهامشية والإلحاق بالسياسي، فالثقافة العربية لا تستطيع أن تؤدّي دورها، من دون أن تتوسّل سلطة أخرى تفتح لها باب التأثير. وفي المقابل، تسمح السلطة السياسية بهذا التأثير بحدود ما يخدم مصالحها، وليس ما يكرّس مشروعاً مستقبلياً جدّياً. لذلك، غالباً ما يتحوّل المثقفون إما إلى معارضين سياسيين، وهذا ما يجعلهم عرضة للاضطهاد والاعتقال، أو إلى انتهازيين باحثين عن موقع، أو إلى هامشيين معدومي التأثير.

لعدم حاجة السلطات العربية للمشاريع الثقافية الجدّية، وجد المثقف نفسه يعاني من الهامشية والإلحاق بالسياسي

كان من السهل تحديد اللون السياسي للمثقف في المنطقة كامتداد للحرب الباردة، حيث اليسارية كانت عنوان التغيير في المنطقة، لكن هذه اليسارية انقسمت مع الانقلابات العسكرية التي تحالفت مع الاتحاد السوفييتي، فهناك من أيّدها ودافع عنها، وهناك من عارضها ودخل سجونها لسنوات طويلة. ولكن يسجّل لهذه الانقلابات وصعود العسكر إلى السلطة السياسية أنها ألغت الهامش السياسي الذي عرفته المنطقة في تجربة الاستعمار، والتي تركت مساحةً لحرية التعبير، ألغت الانقلابات هذه المساحة، وبات الاعتقال هو الرد السياسي من السلطات الانقلابية على أي معارضة سياسية.

في زمن السلطات العسكرية الانقلابية، أصبحت الثقافة تابعا مباشرا للسياسة وخادما لها، وبات سؤال الثقافة سياسياً بامتياز، بوصف الثقافة ملحقاً بها. على الرغم من ذلك، طرح سؤال الطغيان ثقافياً بقوة، وعلى قاعدة الترابط بين الثقافة والسياسة، وهو ترابط لا فكاك منه. ومع انتهاك الحرب الباردة، أخذت السيطرة على وسائل الإعلام والمنابر الثقافية تبدو مشروعاً رابحاً في التأثير. وباتت هذه المؤسّسات المملوكة للدول الخليج، والسعودية تحديداً، تخرج من التأثير بالأدوات القديمة، القائمة على المؤسّسات الدينية وامتدادها، والتي هيمنت عليها في المنطقة، بل وبات التأثير بالأدوات الأكثر حداثة، والتي استقطبت أكثر المثقفين يسارية في العالم العربي. وهو ما عمل على خلط وتمييع للمفاهيم والقيم، ولم يعد هناك مشروع مستقبلي بالمعنى الحداثي. أما موضوعياً، فقد تم قتل المستقبل العربي ثقافياً بأدواتٍ ثقافيةٍ في عقدي الثمانينات والتسعينات.

الثقافة سلطة، سواء كانت قادرة على الإجابة على تحديات المستقبل وصناعته وما تكرسه من قيم ومفاهيم هوية، أو جرى تعطيلها بتخريبها وجعلها عقبة أمام تحوّلات جديّة

يمكن قراءة النتائج الرهيبة لتلك الفترة، في مجريات الربيع العربي، فليس مصادفةً فشل الربيع العربي في إحداث التغيير المطلوب في الواقع العربي. وأعتقد أنه يجب البحث عن هذه الأسباب، في مفاعيل التخريب الثقافي التي جرى الاشتغال عليها عقودا. لم يكن هذا ليحدُث، لو تم إنتاج ثقافة عميقة قابلة للاعتراف بالتغيير، واستطاعت أن تكرّس نفسها في خلفية الاستبداد العربي، ونجت من تخريب القيم وكرست الاعتراف بالآخر بالمعنيين، الثقافي والسياسي، فالتغيير السياسي الذي امتلك أدواته السياسية في تحرّكات الشباب العربي تحت شعارات إطاحة النظام لم يستند إلى ثقافة خلفية قادرة على حماية هذا التغيير الذي أنجزه الشباب في الميادين الكفاحية. بمعنى أن التحرّكات افتقدت المشروع السياسي المستقبلي، وإلى الخلفية الثقافية التي يمكن استثمارها في تجاوز العالم القديم الذي جرى الاحتجاج عليه. لكن الثقافة العميقة المُخرّبة على مدى سنوات استطاعت أن تشكّل هجوماً مضادّاً، حوّلت الثورات العربية إلى كوارث على البلدان التي شهدتها.

الثقافة سلطة، سواء كانت قادرة على الإجابة على تحديات المستقبل وصناعته وما تكرسه من قيم ومفاهيم هوية، أو جرى تعطيلها بتخريبها وجعلها عقبة أمام تحوّلات جديّة، وأعتقد اليوم أن المستقبل العربي مرتبط بمعركة الثقافية أكثر من ارتباطه بمعركة السياسة، فقد حطّم الاستبداد السياسة وحقولها في المنطقة، ولا يمكن العودة إلى هذه المجتمعات، سوى بسلطة ثقافية قادرة على إنتاج عمق حقيقي لمشروع مستقبلي لدول لمنطقة يعيد ترميم السياسة، إنها طريق طويل للفوز، ولكن لا يبدو أن هناك طريقا آخر.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.