المعادلة الصفرية للدولة المصرية
يتجاوز القمع العنيف الذي تمارسه أجهزة الدولة المصرية بحق المعارضين السياسيين مسألة الخلاف السياسي أو الأيديولوجي معهم. كذلك لا يتعلق هذا الأمر بما تدّعيه هذه الأجهزة، وما يدور في فلكها من وسائل إعلام بأصنافها كافة، من اتهام المعارضين بالتهمة الرديئة البالية "الانتماء إلى جماعة إرهابية تسعى إلى قلب نظام الحكم". وهو الاتهام الذي أصبح أقرب إلى طابع دمغة أو ختم النسر الذي يختم كل ما يخرج من بطن الدولة. وإنما هو استمرار للمعادلة الصفرية التي تستخدمها هذه الدولة مع المجتمع، والتي تقوم على مبدأ "إما نحن أو هم". وهي معادلة، وإن ظهرت تمثّلاتها العارية المتوحشة، منذ انقلاب 3 يوليو في العام 2013 إلا أنها تعود بجذورها إلى بدايات الحكم العسكري لمصر منذ أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، بل ولربما أكثر قبل ذلك بحوالي 150 عاماً، وتحديداً منذ تولي محمد علي السلطة في مصر. ذلك أن منطق الدولة المصرية "الحديثة"، بالطريقة التي أنشأها بها محمد علي، هو في تضاد بنيوي مع المجتمع وقواه وممثليه. وهو منطقٌ يقوم على رفض أي شكل من التمثيل الشعبي، سياسياً كان أو اجتماعياً أو اقتصادياً، انطلاقاً من أنه يمثل خطراً على الدولة ذاتها، أو بالأحرى على مصالح من يحكمونها ويسيطرون عليها. ولذلك كانت إحدى المهام الأساسية لهذه الدولة تفكيك أية تكوينات أو تنظيمات أو حركات قد تمثل قطاعاتٍ شعبية معينة. ويتحول الأمر إلى حرب شاملة أمنية واقتصادية واجتماعية، إذا تجرأت أي من هذه القوى ودخلت المجال السياسي. فالدولة المصرية تكره التمثيل الشعبي، وتعتبره خطراً وجودياً عليها، وعلى مصالح حكامها ومن يدور في فلكهم من الحاشية وحواشيهم. وأنها إذا سمحت به، يجب أن يكون ضمن شروط معينة، وتحت سقفٍ محدّد بحيث يصبح تجاوزه، ولو من دون قصد، كأنه إعلان حرب على الدولة، يحتم عليها خوضها وكسبها وكسر عظام من تجرّأ على كسر هذه المعادلة، ليس انتقاماً منه فحسب، وإنما ردعاً لكل من يفكر في تقليده.
تعود المعادلة الصفرية بجذورها إلى بدايات الحكم العسكري لمصر منذ أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، بل ولربما أكثر قبل ذلك بحوالي 150 عاماً
خلال عهدي أنور السادات وحسني مبارك، استخدمت الدولة آليات واستراتيجيات متنوعة من أجل ضمان استمرار هذه المعادلة الصفرية، وضمان عدم الخروج عليها. وهي آلياتٌ تراوحت بين القمع والإقصاء والتدجين والاحتواء. ولعل أبرز مثال على ذلك ما حدث مع جماعة الإخوان المسلمين، فصراع الدولة مع هذه الجماعة، منذ أوائل القرن الماضي، لم يكن بالضرورة فكرياً أو دينياً أو أيديولوجيا، بقدر ما كان، ولا يزال، صراعاً على رأس المال الاجتماعي والبشري الذي نجحت هذه الجماعة في بنائه ورعايته وتمثيله بأشكال مختلفة، نقابية أو مهنية أو سياسية. حتى وإن كان هذا التمثيل يحدُث ضمن شروط السقف المحدود الذي وضعته الدولة. ولذلك في كل مرة حاولت فيها الجماعة كسر هذه المعادلة، والخروج عن قواعد اللعبة، أو السقف المحددّ لها من الدولة، كان يتم قمعها ومحاولة تحطيمها وكسرها ومحاولة استئصالها. واعتمد الأمر على رؤية واستراتيجية كل نظام في هذا الصدد، ومدى شرعيته ودعمه الشعبي، إن وجد أصلاً.
ولعله من اللافت أن دورات القمع والاستئصال التي تحدث للجماعة، تتزامن دوماً مع محاولات الحكام المتغلبين، بالمعنى السياسي وليس الفقهي، بناء قاعدة شعبية لهم، ما يجعل صدامهم حتمياً مع شرعية التمثيل المجتمعي للجماعة، ولو من شرائح معينة، فقد كان من الصعب، مثلاً، على جمال عبد الناصر أن يبني شرعيته، من دون أن يقوم بتحطيم جماعة الإخوان. ذلك أن جزءاً أصيلاً من شرعيته ينطلق من نفي شرعية الجماعة، قبل نفيها من الوجود، وذلك وفق منطق المعادلة الصفرية، وفي هذه الحالة حسب شعار "إما أنا أو المرشد". ولعل الصراع الحقيقي لم يكن مع الجماعة بالأساس، وإنما مع فكرة التمثيل المجتمعي والشعبي الذي كان يكرهه بعض أعضاء ما كان يسمّى "مجلس قيادة الثورة"، فقد قرر عبد الناصر في يناير/ كانون الثاني 1953 إلغاء كل أشكال الحياة النيابية والتمثيلية، خصوصا الأحزاب السياسية، قبل أن يحظر جماعة الإخوان المسلمين بعدها بشهور.
كانت ثورة يناير محاولة جريئة لكسر المعادلة الصفرية بين الدولة والمجتمع
وهو الأمر نفسه الذي يفعله نظام عبد الفتاح السيسي منذ انقلابه في 3 يوليو/ تموز 2013، ولكن مع فارق مهم، أن السيسي ليس في صراع وجود فقط مع الجماعة، وإنما أيضا مع كل ما ومن يتصل بثورة يناير التي يعتبرها، بوضوح، حالة تمرّد من المجتمع على الدولة، لا يجب تكراره مهما كان الثمن. وهو ما يقوله في أحاديثه المتكررة التي لا يتوقف فيها عن تحميله الثورة كل مشكلات مصر، ويعلّق فشله ومشكلاته عليها. لذا لا يتوقف إعلامه عن تشويهها وشيطنة من قاموا بها، والتخويف من تكرارها. ولعله محق في ذلك، فثورة يناير كانت محاولةُ جريئةُ لكسر المعادلة الصفرية بين الدولة والمجتمع الذي حاول، من خلال قواه الحية وشرائحه الفاعلة، انتزاع حق الوجود والتمثيل، من الدولة المصرية.
كذلك لا يمكن فهم منطق التنكيل والإذلال المتعمد الذي تمارسه الدولة المصرية، بكل أجهزتها ومؤسساتها وشخوصها، ضد آلاف المعتقلين السياسيين، خصوصا الشباب، إلا ضمن هذا السياق، فالدولة تحاول قتل ووأد أي تفكير جريء ، في تكرار الخروج عليها مرة أخرى، خصوصا من جيل الشباب. بيد أن ما لا تدركه الدولة المصرية، ومن يديرونها ويتحكّمون بمؤسساتها وأجهزتها، أن من خرج مرة سوف يخرج ثانية، آجلا أو عاجلاً، وأن خروجه القادم لن يكسر المعادلة الصفرية فحسب، وإنما الدولة ذاتها، وهذا ما نخشاه ولا نريد وقوعه.