المصريون والبيئة وقمّة المناخ
في أوضاع طبيعية، كان من الممكن أن تكون استضافة قمّة المناخ أمراً غاية في الأهمية للمصريين، نظاماً وشعباً معاً، باعتبار مصر من أكثر الدول تضرّراً من التغيرات المناخية، لكنّ يبدو أنّ هذه القمة تسير في اتجاهات يحاول النظام المصري فيها تلميع صورته خارجياً، بينما تحاول الهيئات الحقوقية المصرية والمجتمع المدني المصري أن تحقق، ولو مكسباً بسيطاً، بخروج بعض المعتقلين السياسيين وتعريف العالم بقضيتهم، ولا سيما الناشط علاء عبد الفتاح الذي يتعنت النظام معه بشكل مبالغ فيه، رغم حصوله على الجنسية البريطانية، واستعداده لترك البلاد حفاظاً على ما تبقى من حياته بعيداً عن السجون.
أصبحت القمّة إذاً ساحة للصراع السياسي بين النظام والمعارضة المصرية في الداخل والخارج، هذا الصراع البعيد نسبياً عن قضية المناخ، لكنّه قريبٌ جداً من قضية المناخ الديمقراطي الذي سعى المصريون للوصول إليه وتحقيق شروطه عبر عقود، وبذلوا في سبيل ذلك كثيراً من الدماء وسنوات السجون، إلّا أنّ جهودهم كللت بالفشل.
قبيل القمة بأيام ظهر عبد الفتاح السيسي خلال أيام المؤتمر الاقتصادي وهو يستجدي المصريين بأنّ الدول الصديقة تخلت عنه وعن الدولة المصرية التي تتّحد في مخيّلته مع شخصه، خاطب الشعب قائلاً: "لم أقدّم لكم وعوداً جميلة"، بينما خاطب الشركاء الاستراتيجيين خطاب عتاب شديداً لتخليهم عنه وعن الدولة المصرية، وأنّ الأشقاء والأصدقاء أصبحت لديهم قناعة أن الدولة المصرية غير قادرة على الوقوف مرّة أخرى، بعدما قدّموا لها المساعدات على مدى سنوات لحلّ الأزمات والمشكلات، مردفاً: "ما دمنا لا نساعد أنفسنا فلن يقوى عودنا ونقف، والحلول لا بد أن تكون أكبر من التحدّيات".
بينما يشيد النشطاء البيئيون المصريون والدوليون بالطفرة في إنتاج الطاقة الكهربائية من الألواح الشمسية، ساهم النظام الحالي أيضاً في إنشاء أكبر محطّة توليد تعمل بالفحم
في قمّة المناخ هذه، والتي بدأت التحضيرات لها منذ عام تقريباً، واستحوذت على جزء كبير من نشاط وزارة الخارجية المصرية، وكذلك النشاط الخارجي لمعظم الوزارات وللسيسي نفسه، كان الحديث عن تمويل الدول الصناعية المتقدّمة للدول النامية كجزء من التعويض عن التلوث، وهو أمر جيد ومحمود أن تتزعم مصر، أو أيّ دولة نامية، الدعوة إلى تعويض الدول النامية عن التلوث الذي لم تتسبب فيه. لكن، إلى حينه، لا حديث عن التزامات دولية واضحة، والأمر، كما في قمم المناخ السابقة، لا يعدو التزاماً أخلاقياً ببعض المعونات والمساعدات، من دون التزام بنسب محدّدة من الناتج أو حتى نسب محدّدة من تقليل الانبعاثات وبناء المشروعات الصديقة للبيئة.
من ناحية التوقيت، تأتي القمة في وقت قد تعقّدت فيه الأوضاع الدولية، وانقطعت إمدادات الغاز الروسي عن أوروبا في ظل الحرب التي تخوضها في أوكرانيا، والعقوبات التي فرضها الغرب عليها. والحديث هنا عن عودة الغرب لتشغيل المحطات النووية لتوليد الطاقة أو حتى العودة إلى استخدام الفحم في توليد الطاقة والتدفئة، وهي الطرق التي كانت قد تخلت عنها وعطلتها بعض الدول بإرادتها، فأيّ التزامٍ دوليٍّ متوقع في ظلّ هذا الظرف القسري الذي لا يُتوقع انتهاؤه قريباً، بل قد يمتد إلى حربٍ عالميةٍ خارج حدود أوكرانيا؟
بعد قتل النظام كلّ الفعاليات السياسية المحلية لا يزال المجتمع الحقوقي المصري في الداخل والخارج حياً وقادراً على كسب بعض المعارك
هنا تبدو طموحات النظام في مصر في الحصول على بعض الدعم المالي من قضية المناخ، بوصفها دولة نامية تعاني من معدّلات تلوث ومخاطر بيئية عالية، بعيدة المنال، وبينما يشيد النشطاء البيئيون المصريون والدوليون بالطفرة في إنتاج الطاقة الكهربائية من الألواح الشمسية، فقد ساهم النظام الحالي أيضاً في إنشاء أكبر محطّة توليد تعمل بالفحم، وهو مستعد لإعادتها إلى التشغيل في سبيل تصدير الطاقة إلى أوروبا، والحصول على الدعم المالي الذي تجفّ مصادره مع الوقت، وهو أيضاً الذي تتداول صور أنشطة أجهزته المحلية وهي تقتلع الأشجار بدعوى توسعة الشوارع، باعتبارها أكثر جدوى من الإبقاء على هذه الأشجار، ويتباهى أنصاره بتقدّم مصر في مقياس جودة الطرق من دون النظر إلى ما تكبّدته البيئة وستتكبّده جرّاء هذه الطفرة. ولا تزال مصر أيضاً من أسوأ البلدان من حيث الحق في الحدائق والمتنزهات العامة، ولا تتوفر في غالبية مدنها أية مواصلات عامة تخفّف من وتيرة استخدام السيارات الخاصة، أحد أكبر ملوثات البيئة. وما زال نظام النقل العام في القاهرة الكبرى والإسكندرية يسير عبر حافلات (باصات) بعيدة كلّ البعد عن التي تقدّمها الحكومة للعالم في قمّة المناخ، والتي نتمنّى تعميمها في كل المحافظات المصرية.
من ناحية ثانية، لا يزال الفلاحون المصريون، وهم المتضرّر الأكبر من قضية التغيرات المناخية، بعيدين تماماً عن أيّ آلية للدعم في مواجهة آثار تلك التغيرات التي بدأ عديد منهم في عيشها، ففي قرى عديدة في الريف لا تتوفر أيّ آلية لإزالة مخلفات المنازل، ولا تزال غالبية القرى غير مرتبطة بشبكة الصرف الصحي، وغير موصلة بخطوط الغاز الطبيعي، رغم الدعم الدولي الكبير الذي حصلت عليه مصر طوال عقود لتوصيل هذه المرافق إلى الريف من جهات تنموية عدة، بل لا يتوفر في أي موقع حكومي رسمي ما يُرشد هؤلاء المزارعين إلى كيفية التخلص من أيّ حيوانات نافقة بطريقة آمنة صحياً وبيئياً، ولا تزال الترع وقنوات تصريف المياه المدفن الوحيد لهذه الحيوانات.
قرى مصرية عديدة لا تتوفر فيها أيّ آلية لإزالة مخلفات المنازل، وغالبية القرى غير مرتبطة بشبكة الصرف الصحي
التطور الجيد الوحيد في هذه القمة، حتى كتابة هذه السطور، بعد تحولها إلى صراع سياسي بين النظام المصري والنشطاء، هو التداول الإعلامي الواسع دولياً لقضية الحقوق والحريات في مصر، ويبدو أنه بعد قتل النظام كلّ الفعاليات السياسية المحلية لا يزال المجتمع الحقوقي المصري في الداخل والخارج حياً وقادراً على كسب بعض المعارك، وتعرية الانتهاكات السياسية الموسّعة بحق المعارضة. وهذا ما كان واضحاً في المؤتمر الصحافي الذي عقدته سناء سيف شقيقة الناشط علاء عبد الفتاح، والذي حظي بتغطية إعلامية دولية موسّعة، ورأينا أيضاً تصريحات رئيس الوزراء البريطاني الجديد، ريشي سوناك، عن طلبه الاجتماع بالسيسي لمناقشة قضية عبد الفتاح باعتباره مواطناً بريطانياً.
ورغم تطوّع أحد نواب تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين في محاولة لإفشال هذا المؤتمر الصحافي للنشطاء الحقوقيين المصريين، فإنّ ما قام به تحوّل إلى فضيحة جديدة، إذ منعه حرس الأمم المتحدة بطريقة مهينة، تذكّرنا بمأساة قدوم طائرة عسكرية أميركية لتقل من ساحة المحكمة نشطاء أميركيين كانوا متّهمين مع نظرائهم المصريين في قضية ملفقة للمجتمع المدني في العام 2011، وفي عز حكم المجلس العسكري بقيادة المشير حسين طنطاوي.
المؤسف والمخزي في هذا الحادث وغيره أنّ الكلمة تحوّلت إلى مزايدات وطنية على حاملي الجنسيات الأجنبية من المصريين. والحقيقة أن المهين هنا أن النظام حوّل الجنسية المصرية إلى مناط تعذيب ومهانة واستباحة، عبرت عنها بشكل كبير عبارة والدة الباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، عندما قالت "قتلوه كما لو كان مصرياً". وبينما لا يتورّع كبار موظفي الحكومة المصرية ورجال الأعمال المقرّبين منها عن الحصول على جنسياتٍ أخرى لهم ولزوجاتهم وأولادهم، سواء عبر إرسالهم إلى الخارج للتعليم والعلاج والولادة والعمل، فلا ينبغي أن تُستخدم قضية الجنسية الأجنبية للمزايدة. وينبغي للجميع البحث عن معايير تقرّب المصريين من مناخ سياسي ديمقراطي حقيقي يجعلهم فخورين بقمّة المناخ وأشباهها بالدرجة نفسها التي يفخر بها النظام، لأنّ مثل هذه المزايدات الفارغة سرعان ما تتحوّل إلى فضائح تمس الدولة والقضاء والمجتمع المصري.