المصالحة الخليجية و"دبلوماسية الدقائق الأخيرة"
بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة من عمر الأزمة الخليجية التي نتج عنها مقاطعة السعودية والإمارات والبحرين ومصر وحصارها قطر، بات من شبه المؤكد أن تشهد القمة الخليجية التي تُعقد بعد أيام انفراجة كبيرة في ملف المصالحة الخليجية التي باتت محل اهتمام وتركيز واضح ليس في الإعلام العربي فحسب، وإنما في الإعلام الغربي الذي تناول الموضوع من جوانب متعدّدة ركّزت، في جزء كبير منها، على تقلبات المشهدين الإقليمي والدولي، وضرورة إعادة قراءة المواقف الاستراتيجية للدول الخليجية وفق أبجديةٍ جديدة، وخصوصاً بعد هزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وقرب دخول جو بايدن البيت الأبيض، وما قد يحمله ذلك من ضغوط كبرى على الدول الخليجية، في حال عودة بايدن إلى الاتفاق النووي مع إيران، كما صرّح في أثناء حملته الانتخابية.
طرح ملف المصالحة الخليجية، بعد سنوات من المقاطعة والحصار، يعدّ إيجابيا ومهما، خصوصا إذا ما نظرنا إلى المصالح المشتركة التي تجمع دول الخليج مع بعضها بعضا، وإلى مكانتها ودورها في ملفات وقضايا عربية وإقليمية عديدة (ليبيا واليمن وسورية ولبنان وإيران وفلسطين)، إلا أن أكثر ما يثير التساؤلات هو توقيت المصالحة، سيما أن إدارة ترامب التي هيأت حلقات الأزمة الخليجية في بدايتها هي من تسعى إلى حلها الآن، وتدفع باتجاه إنهائها، الأمر الذي يطرح تساؤلاتٍ عديدة متعلقة بدلالات توقيت المصالحة ودوافعها، فقد جاءت فيما يمكن أن يطلق عليها "دبلوماسية الدقائق الأخيرة"، ونالت الحيز الكبير من النقاش والتحليل، وخصوصاً لموضوع طرح هذه المصالحة في الأيام الأخيرة من رئاسة ترامب، على الرغم من أن الأخير كان شاهداً على الأزمة منذ أيامها الأولى، ومشجعاً لها ولاعباً على حبالها، وكان قادراً على حلها ووأدها في مكانها، فلماذا حرّك إنهاءها الآن؟.
تعمل إدارة ترامب، قبل مغادرتها البيت الأبيض، على إحكام الحصار على إيران، وخنقها من خلال تكوين محور إقليمي خليجي موحد
تحمل الإجابة عن هذا التساؤل خفايا كثيرة، ربما أهمها محاولة ترامب إغلاق ملفات عديدة عالقة قبل مغادرته البيت الأبيض، ومنها ملف الأزمة الخليجية، من دون مراعاة الظروف المحيطة بها، في محاولة لتأمين نفسه وإدارته من استثمار خصومه الديمقراطيين الأخطاء التي ارتكبها، وخصوصاً أنّ أغلب التحليلات كانت تشير إلى دور أساسي ستلعبه إدارة الرئيس جو بايدن في طرح ملف المصالحة الخليجية في الأيام الأولى من وصولها إلى البيت الأبيض، لجني مكاسب سياسية من أخطاء ترامب، وبالتالي تأتي هذه الخطوة، في المقام الأول، في محاولةٍ من إدارة ترامب إغلاق بوابة المكاسب تجاه إدارة بايدن، وتسجيلها لحساب ترامب وإدارته.
ويمكن النظر إلى التوقيت هذا برغبة ترامب بتحقيق أقصى ضغط على إيران، وإلحاق أكبر قدر من الضرر بمصالحها قبل مغادرته البيت الأبيض، وحرمانها من مداخيل تقدّر بحوالي مائة مليون دولار سنوياً، كانت تتحصل عليها من قطر جرّاء استخدام الطيران القطري الأجواء الإيرانية بدلاً من الأجواء السعودية، بعد فرض الحصار عليها، أي أن إدارة الرئيس ترامب تعمل، قبل مغادرتها، على إحكام الحصار على إيران، وخنقها من خلال تكوين محور إقليمي خليجي موحد، يضعها في خانة العدو الوحيد في المنطقة، من خلال إتمام ملف المصالحة الخليجية. ويتسق هذا الهدف مع الهدف العام لإدارة ترامب، والذي يقوم على محاولة تكبيل إدارة بايدن، وجعل سياسته تجاه إيران محكومة بتوجه معين، يقطع الطريق أمام أيّ عودة محتملة إلى الاتفاق النووي، أو رفع الحصار والعقوبات عنها، وهو الأمر الذي تسعى إدارة ترامب إلى تأكيده، من خلال استمرار الاغتيالات، والتي كان جديدها اغتيال "إسرائيل"، بضوء أخضر أميركي، العالم النووي، والمسؤول البارز في البرنامج النووي الإيراني، محسن فخري زادة، إلى جانب الحديث عن نية ترامب، وبتحريض من "إسرائيل" ضرب المنشآت النووية الإيرانية قبل تسليم السلطة لبايدن.
طرح ملف المصالحة الخليجية، بعد سنوات من المقاطعة والحصار، يعدّ إيجابياً ومهماً
أحد الأهداف الأميركية من المصالحة الخليجية تضييق الخناق على إيران، ومحاولة الضغط على إدارة بايدن عبر تشكيل جبهة مكوّنة من "إسرائيل" ودول الخليج، بحيث لا تستطيع الذهاب إلى الحوار مع إيران، بدون موافقة هذا التجمّع، سيّما أنّ بايدن تعهد، خلال حملته الانتخابية، بانتهاج سياسة دبلوماسية مع إيران، وجعل الباب مفتوحاً أمام إمكانية العودة إلى الاتفاق النووي، الأمر الذي تنظر إليه إدارة الرئيس ترامب، وعدة دول في منطقة الخليج، كتقوية للدور الإيراني على حساب الدور الخليجي، وتحديداً السعودي، لذا يأتي ملف المصالحة في هذا الوقت بالذات محاولة لسد ثغرة رئيسية في دور إيران في منطقة الخليج العربي، في حال العودة إلى الاتفاق النووي أو رفع العقوبات عنها.
في المحصلة، تحقيق المصالحة الخليجية، تلبية لرغبة ترامب الذي تمنّى على الدول الخليجية إنهاء الأزمة، أو بدافع تعظيم مصالح الدول الخليجية وعودة الوئام إلى البيت الخليجي، أمر جيد وخطوة مهمة وإيجابية، تعوّل عليه عديد من دول المنطقة، بحكم متغيراتٍ كثيرة تشهدها المنطقة، وتتطلب حكمة في الحلول.