المحكمة الإسرائيلية العُليا والحريديم... الجميع خاسر
لم تعد إسرائيل تعرف الهدوء، فهي تخرج من عاصفةٍ إلى عاصفة، ومن أزمةٍ إلى أخرى. هكذا أصبحت، وهكذا أصبح الإسرائيليون يستيقظون في كلّ يومٍ على وقع صراعات لا تنتهي، فقد جاء قرار إلزام الدولة بتجنيد الحريديم (يهود متدينون)، الذي أصدرته المحكمة العليا يوم الثلاثاء الماضي (25 يونيو/ حزيران)، ليكون بمثابة حجر كبير في ماء هائج أصلاً، وليثير ضجّة كبيرةً في المجتمع الإسرائيلي.
يطرح قرار المحكمة، الصادر بإجماع أعضائها، تساؤلات مُهمّة عديدة؛ يتعلق بعضها بمدى مصداقية تصريحات المطالبين بتجنيد الحريديم، التي تقول إنّهم ينطلقون بدافع المبدأ، وليس المصلحة الخاصّة والمناكفة السياسية، وبعضها يرتبط بتوقيت القرار ومدى صلته باحتياجات الجيش، وهل يُعتبر قراراً سياسياً أم قانونياً؟ وهناك أسئلة أخرى عن التبعات المحتملة للقرار، ومدى استعداد "الحريديم" للاستسلام له. وأخيراً، وهو المهمّ، مدى استطاعة من لا يرغب في التجنيد أصلاً أن يكون جندياً مقاتلاً، وإلى أيّ درجة يمكن أن يعتمد عليه الجيش، وقد أظهرت الأشهر الثمانية الماضية أنّ الاستعداد القتالي لدى الجنود المدرّبين لم يكن في المستوى المقبول لجيشٍ يوصف بأنّه الأقوى في المنطقة؟
إعفاء "الحريديم" من التجنيد كان مثالاً للترتيبات التي تجري داخل الشركات الخاسرة، كما قال زعيم المعارضة يائير لبيد تعليقاً على قرار المحكمة، وهو محقّ. فمن المفهوم أن يكون الأساس الأكثر أهمّية لأيّ نظام دولة تحترم نفسها تشارك جميع مواطنيها في الأعباء، وألّا تكون هذه الأعباء مُلقاةً على طرف بعينه، وأن يُطبّق المبدأ على الجميع، مثلما تقول أغلب قوى المعارضة، بل وبعض أعضاء الليكود أيضاً. لكن، إذا كانت المسألة تتعلّق بالمبدأ فعلاً، كما يقولون، فلماذا كان ديفيد بن غوريون أول من طبّق هذا الإعفاء منذ قيام الدولة، ولماذا استمرّ هذا الإعفاء أو تغيّرت أشكاله وطريقته، ما بين إعفاء جزئي أو كلّي، أو تسهيل شروط التجنيد في عهد حكومات يمينية ويسارية كثيرة على السواء؟
تصدّرت احتجاجات الحريديم شعارات مثل "نفضّل الموت على الخدمة العسكرية"، وهم يرون أنّ دراسة التوراة هي التي توفّر الحماية للجيش
حين نعود إلى تاريخ إعفاء "الحريديم" من الخدمة العسكرية نجده يبدأ مع الأعوام الأولى من تأسيس الكيان، فقد طبّقه بن غوريون في 1948 في حقّ أربعمائة حريدي بناءً على طلب من القوى الحريدية حينها على خلفية تعرّض جنود حريديم للتنمر والعقاب العسكري بسبب مراعاتهم للتقاليد الدينية، ثم بدأ الأمر بالاتّساع من تلك اللحظة، لكنّه كان من دون سنّ أيّ قوانين. وهذا يعني أنّ الدولة نفسها، والقوى التي كانت تديرها في ذلك الوقت، لم تكن تنظر إلى الموضوع من ناحية "المبدأ"، بل إنّ أحداً حينها لم يذكر مصطلح "المساواة في العبء"، الذي تطرحه حالياً القوى العلمانية، في اليمين والوسط واليسار، في دولة الاحتلال. الأكثر من ذلك، أنّ المحكمة العليا نفسها رفضت أكثر من مرّة، في 1970و1981، دعاوى مرفوعة ضدّ إعفاء "الحريديم" من التجنيد، حتّى إنّها في 1988 أعطت الحقّ لوزير الحرب في منح الإعفاءات، واعتبرت أنّ الحسابات الدينية التي راعاها الوزير عند اتّخاذ قرار الإعفاء، حسابات قانونية. وهذا يعني أنّ موضوع إعفاء الحريديم، في المستوى السياسي، أو حتّى القضائي، لم يكن، في أيّ وقت، قضية مبدأ، بل كان دائماً خاضعاً لحسابات السياسة والمصالح، ومن المُؤكّد أنّ حسابات المصلحة، والترتيبات الخاصّة، والابتزاز السياسي، كانت تزداد كلّما تقدّم عمر دولة الاحتلال.
ويفيد تقرير، نشرته صحيفة غلوبس الإسرائيلية في مارس/ آذار الماضي، بأنّ الإجمالي السنوي لـ"الحريديم" الملتحقين بالخدمة العسكرية بلغ 1200 سنوياً في الأعوام الثلاثة الماضية، وإلى أنّه رغم الأحداث التي وقعت في 7 أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، لم يحدث تغيير يستحقّ الذكر في هذه الأرقام. وتتحدّث عضو الكنيست عن حزب إسرائيل بيتنا، شارون نير، عن أنّ عدد الحريديم، الذين يمكن أن يلتحقوا بالجيش إن عُدّلت شروط التحاقهم بالخدمة يمكن أن يصل إلى ستين ألفاً. ويبدو أنّ هذا الرقم الكبير هو الذي يغري الجميع حالياً، في ظلّ ما تحدّث عنه منذ أيام زعيم حزب إسرائيل بيتنا، أفيغدور ليبرمان، أنّ عدد من خرجوا من الخدمة نتيجة القتل أو الإصابة، يقدّر بلواء كامل، علماً أنّ قوّة اللواء تزيد على خمسة آلاف جندي. وأغلب الظنّ أنّ هذا العدد ليس الإجمالي لمن ابتعدوا من الخدمة العسكرية في الأشهر التسعة الماضية، وأنّ هذا العدد يُعبّر فقط عمّن قتلوا أو تعرّضوا لإصابات دائمة كبتر أطراف وخلافه، منذ بداية الحرب. يُؤكّد ذلك ما أعلنته صحيفة يسرائيل هيوم في 18 يونيو/ حزيران، أنّ عدد مصابي الجيش الذين يتلقّون برامج تأهيل من وزارة الحرب الإسرائيلية تخطّى سبعين ألفاً للمرّة الأولى، ما يعني أنّ الجيش الإسرائيلي يواجه نقصاً كبيراً في أعداد الجنود، وهو ما عكسته تصريحات القادة العسكريين والسياسيين، وقوانين مدّ الخدمة العسكرية، وسنّ التقاعد لجنود وضبّاط الاحتياط خلال الفترة الماضية.
ولذلك، من المرجّح أنّ قرار المحكمة العليا، إذا وضعنا المعطيات السابقة في الاعتبار، سياسي، وأنّ المحكمة بإصدارها هذا القرار تمثّل مؤسّسات الدولة العميقة، التي تخشى من أن يُؤدّي النقص الحالي، ومعروفٌ للجميع، في عدد المقاتلين في الجيش إلى هزيمة تاريخية، وعدم القدرة على تحقيق أهداف الجيش في الحرب، أو تلبية الحاجات اللازمة المتزايدة في ما يخصّ احتمالات فتح جبهة حرب واسعة في الشمال ضدّ حزب الله.
وتشير ردّات الفعل الحريدية الأولية إلى رفضٍ تامّ لقرار المحكمة، وإلى استعدادٍ لإشعال الوضع. فمن المعروف أنّ شعاراتٍ مثل "نفضّل الموت على الخدمة العسكرية" أو "نعم للسجن، لا للتجنيد" تصدّرت احتجاجات الحريديم ومظاهراتهم الرافضة لأيّ تعديل قانوني يتعلّق بموقفهم من التجنيد، فهم يرون أنّ دراسة التوراة هي التي توفّر الحماية للجيش، أو أنّها هي التي "تصنع المعجزات"، بحسب تعبير رئيس حزب شاس، الذي يمثّل الحريديم الشرقيين، أرييه درعي، مع تلويح بعضهم بأنّ القرار يقود إلى تقسيم الكيان إلى دولتَين، وأنّ المحكمة العليا تحوّلت مؤسّسةً دكتاتورية، واستولت على السلطة من يد الحكومة المُنتخَبة، وتريد إشعال حرب دينية في الشوارع، على حدّ تعبير بعض أعضاء حزب يهدوت هتوراة، الذي يمثّل الحريديم ذوي الأصول الغربية. ومن المفيد أن نشير إلى أنّ رفض التجنيد عند قطاعٍ واسعٍ من الحريديم يرتبط بأسبابٍ أيديولوجيةٍ قديمة. فبعض الحريديم، خصوصاً من حزب يهدوت هتوراة، ينطلقون في موقفهم هذا من عداءٍ للصهيونية، مثلما يقول عضو الكنيست عن إسرائيل بيتنا، يفغيني سوبا. ويبني فريق آخر منهم موقفه على أسبابٍ ترتبط بالصراع بين الحريديم والعلمانيين، وهو أيضاً، موقف قديم يعود لأفكارٍ واكبت ظهور الصهيونية وتخوّف اليهود التقليديين من علمانية مؤسّسيها، والاعتقاد في أنّهم سيُلحِقون الضرر بالديانة اليهودية، ومن هنا، فإنّ الحريديم، رغم مشاركتهم في الائتلافات الحكومية المختلفة، ظلّوا رافضين للعلمانية في مؤسّسات الدولة، ومن بينها الجيش. وهذا يعني أنّ أحد جوانب رفض الخدمة، أو ربّما البحث عن أفضل شروط لأدائها عبر المساومات الانتهازية السياسية، يأتي في سياق الصراع بين "الحريديم" والعلمانيين، وفي هذا السياق أيضاً، يأتي رفضهم لكثيرٍ من قرارات المحكمة العليا، بل ورغبتهم في تمرير قوانين الثورة القانونية، التي كانت تكبّل يد هذه المحكمة، والتي تعطّلت نتيجة عملية طوفان الأقصى.
رغم مشاركة الحريديم في الائتلافات الحكومية المختلفة ظلّوا رافضين للعلمانية في مؤسّسات الدولة، ومن بينها الجيش
ما يزيد من خطورة تبعات القرار، واحتمالية دفعه الحريديم إلى المواجهة، أنّه يمكن أن يُؤسّس لإيقاف أيّ مساعدات أو مبالغ ماليّة تمنحها الدولة للحريديم، وللمعاهد الدينية بالتبعية، إذا امتنع الطلّاب الذين تنطبق عليهم شروط الخدمة العسكرية عن الالتحاق بالجيش، وهو ما يعني وضع الحريديم تحت طائلة الضغوط الاقتصادية، وحينها، سيصبح شعارهم الحالي "نموت ولا نذهب للتجنيد" أمام اختبار حقيقي. وهو ما يضع الحريديم أمام خيارين: إمّا الانصياع للقرار (لم يعد يُتحمّل أصلاً) وإمّا النزول إلى الشارع. وفي الوقت نفسه، قد يدفع قادتهم إلى التفكير في جدوى بقائهم في الحكومة إذا لم تكن لديهم القدرة على تحقيق ما يريده أنصارهم، وهو ما تنتظره المعارضة بالطبع.
هكذا جاء قرار المحكمة ليعقّد المشهد، ويصبّ مزيداً من الزيت على نارٍ لم يعد في الإمكان إخمادها، في وقت كان من المفترض بالمجتمع أن يرمّم جراحاته التي نكأتها معركة طوفان الأقصى، وأن يسدّ الثغرات التي كشفتها، ويعالج أزماته الكُبرى، التي أصبح العالم كلّه يراها بوضوح، لكنّ المُؤكّد أنّ هذا الكيان بقيادته الحالية، في الموالاة والمعارضة، قد وصل إلى نقطة اللاعودة، ولم يعد في مقدوره وقف الانهيار، ولا منع القدر من الوصول إلى مراده.