المبادرة... تلك المفردة سيئة السمعة
في حوار أجرته معه صحيفة معاريف الصهيونية قبيل رحيله، تحدّث وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق، هنري كيسنجر، عن دور واشنطن في حرب أكتوبر (1973)، فقال "شكّلت فريق عمل خاص لاتخاذ القرار بشأن الاستراتيجية المعتمدة، وكان الهدف أنْ يصل الجيش الإسرائيليّ حتى محافظة الإسكندرية قبل أنْ تطأ أقدام المصريين سيناء، بغرض وقف القتال، والعودة إلى الوضع السابق، وكنّا مصمّمين منذ اليوم الأول على منع تحقيق أيّ انتصارٍ عربيٍّ، لأنه سيعدّ انتصارًا للاتحاد السوفييتي".
تلك هي العقيدة الأميركية الراسخة فيما يخصّ علاقتها بالكيان الصهيوني والمنطقة العربية، إذ تحضر طوال الوقت باعتبارها خطّ الدفاع الأخير عن إسرائيل وقتما تعرّضت الأخيرة للخطر، وهو الحضور الذي يكون فجًا ووقحًا عادًة، وناعمًا في بعض الأحيان، غير أنه في كل الأحوال يبقى جزءًا أصيلًا في العقيدة السياسية الأميركية.
تبدّى هذا الأمر في أوضح صوره في جلسة مجلس الأمن يوم الجمعة الماضي، في أثناء التصويت على قرار أممي بشأن الجريمة ضد الإنسانية المتواصلة منذ 80 يومًا التي ينفذها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في غزّة، بمشاركة أميركية كاملة على المستويين، العسكري والدبلوماسي، حيث تمكّنت واشنطن، أولًا، من تفريغ القرار الأممي من مضمونه بوصفه إجراءً لازمًا لإيقاف المذبحة، والتوصل إلى وقف إطلاق النار، وجعلت منه قرارًا باهتًا يتعلق بمسألة المساعدات الإنسانية.
تابع العالم كيف تصدّت مندوبة واشنطن في المجلس، ليندا غرينفيلد، بشراسة تصل حد الوحشية لمحاولات قادتها روسيا للحفاظ على الصيغة الأصلية للقرار المقترح، وهي الصيغة التي لقيت ترحيبًا من الدول الأعضاء، مستخدمة حق الفيتو لفرض الرغبة الصهيونية في مواصلة أعمال الإبادة الجماعية، التي تنتفض ضدّها عواصم العالم ومدنه بما فيها الأميركية بتظاهرات عارمة مطلبها الوحيد "cease fire now" في تعبير واضح عن تواطؤ واشنطن وتوابعها في الجريمة الدائرة في غزّة.
كانت المندوبة الأميركية، وبدرجة أقلّ نسبيًا زميلتها البريطانية، تخوضان المعركة الدبلوماسية في مجلس الأمن، على نحو أعنف من الغارات الصهيونية على غزّة، مستخدمين ترسانة الأكاذيب ذاتها التي سقطت تباعًا بمرور الوقت، والتي صنعتها إسرائيل مبكرًا وتولت واشنطن وتوابعها ترويجها من دون تدقيق، غير أن أكثر المشاهد وقاحة في الإعلان عن النظرة العنصرية الكريهة، والاستعلاء الاستعماري الكاره، اعتبار أن وقوع عشرات من المحاربين والمستعمرين الصهاينة في الأسر لدى المقاومة الفلسطينية قضية إنسانية مؤلمة أكثر من دفن آلاف المواطنين الفلسطينيين أحياء، وافتراس جثثهم بالجرّافات الإسرائيلية، ليكون غياب عشرات الأسرى من المحتلين الغزاة عن أسرهم أكثر إيلامًا من قتل أكثر من 21 ألفًا من المواطنين الفلسطينيين العزّل أصحاب الأرض.
كانت هذه العنصرية الوقحة تستلزم ردّا وموقفًا حاسمًا من مندوبة الإمارات في مجلس الأمن، التي تقدّمت بأصل القرار، ثم اكتفت بمشاهدة العبث والتغيير والتبديل في صياغته، والصمت المتواطئ على سماع حزمة الأكاذيب الأميركية.
مؤسفٌ أن التعاطي الدبلوماسي العربي مع العدوان على غزّة بدا ملتزمًا بنصّ الرواية الأميركية الإسرائيلية الكاذبة عن وقائع 7 أكتوبر، حيث لم يخجل عربٌ رسميون كثيرون من تبنّي الموقف الأميركي في الإدانة والاستنكار، من دون أن يمنح أحدهم نفسه الفرصة للتحقّق مما يروج قبل أن يعلن موقفه.
ينسحب هذا الموقف المائع ممن يمكن تسميتهم "عرب بايدن" على ما يجري تسريبه عن مبادرات وأفكار عربية المنشأ بشأن العدوان الصهيوني، وبعيدًا عما يكتنف لفظ "مبادرة" من سمعةٍ سيئة منذ "روجرز" ثم "كامب ديفيد"، فإن المطروح من هذه المبادرات يتحرّى عدم إثارة غضب الإدارة الأميركية، المتورّطة حتى الرأس في جريمة إبادة الشعب الفلسطيني، انطلاقًا من وضعية الوسيط، وليس الشقيق صاحب الدم والطرف الأصيل في معادلة الصراع.
مبادرة أو مقترحات عربية لا ترضى عنها المقاومة الفلسطينية وتوافق عليها مسبقًا هي مبادرة تبقى بعيدة كل البعد عن الموقف المحترم، الذي تطمح إليه الشعوب العربية، التي يستبدّ بها الغضب، والإحساس بالعجز، وهي ترى حشودًا مليونية تملأ شوارع مدن العالم الغربي، بينما هي لا تقوى على حمل لافتة تعاطفٍ مع فلسطين في عواصم العرب.
كما أن تواصل استهداف الغاضبين من أجل الشعب الفلسطيني بالاعتقال والتنكيل بهم في السجون ينسف أية مصداقيةٍ لمبادرةٍ عربية تزعم حرصها على حقوق الشعب الفلسطيني، كما جرى مع الشاب المعتقل بتهمة رفع علم فلسطين في أثناء ما سمّيت انتخابات رئاسية، ويجري الآن مع مساعد رئيس الجمهورية السابق للشؤون الخارجية عصام الحداد، والذي انتهت فترة حبسه عشر سنوات، فقرّرت مصر التي تستقبل قيادات حركتي حماس والجهاد الإسلامي بحفاوة إعادة حبسه بتهمة التخابر مع "حماس"، في تزامن مدهش مع نزول قيادات "حماس" ضيوفًا على المخابرات المصرية!