المانحون وسيادة الدول
يكثر الحديث، ليس اليوم فقط وإنّما منذ سنوات، بل وعقود، عن وصفات (روشتات) البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، التي أصبحت بمثابة المُقرّر الإجباري الذي على كلّ الدول التي تحتاج القروض المالية اتباعه، رغم ما تُظهره التجارب من التداعيات المؤلمة لهذه "الروشتات". فتجد هذه الدول، التي تعود أسباب حاجتها للقروض من المؤسّستيْن الماليتيْن العالميتيْن الأشهر، ومن سواهما من صناديق ودول، إلى تعثّرها الاقتصادي لأسباب مختلفة، بينها سوء الإدارة وغياب التخطيط الصحيح، وتفشّي الفساد في أوساط القوى المُتنفّذة الماسكة بزمام السلطة والمال.
ومعلوم أنّ سلطة البلدان المتمكّنة مالياً في هاتيْن المؤسّستيْن مرتبطةٌ بحجم إسهاماتها المالية فيهما، ولأنّ الأغنى هو الأكثر قدرة على الدفع، فإنّه يحوز سلطة أقوى، ومن ثمّ، تجدُ البلدانُ الفقيرةُ نفسَها أسيرة أغنياء العالم، الذين يضعونها تحت الوصاية، لأنّها لن تقوى على تسديد ديونها، وحتى تسديد أرباح هذه الديون، وستجد نفسها محمولةً على تخفيض مستوى معيشة شعوبها استجابة لشروط الدائنين. ومن الوصفات المُعتادة التي تُجْبَرُ الدول المدينة على تنفيذها: رفع أسعار المحروقات، وزيادة الضرائب بشكل مطّرد، وتقليص الخدمات أو رفع كلفتها، وحمل الحكومات على التخلي عن كثيرٍ من التزاماتها تجاه مواطنيها في مجالات حيويّة مثل الصحة والتعليم، والبنى التحتيّة والخدمات البلدية، والحماية الاجتماعية.
ولو تتبعنا تاريخ الثورات والانتفاضات والاحتجاجات الشعبية التي شهدتها كثير من البلدان التي توصف بـ"الناميّة"، لوجدنا أنّ شرارة اندلاعها هي فرض تدابير من وصفات البنك الدولي، وقرينه صندوق النقد الدولي، وغيرهما، حين تجد الغالبية الفقيرة في هذه البلدان نفسَها محمولةً على الاحتجاج، لأنّ ليس في طاقتها تحمّل المزيد من الأعباء المعيشية بسبب تلك الوصفات، الخالية من الحسّ الإنساني السويّ، والتي لا يبالي فارضوها بمعاناة الفقراء والمُعدمين وكلّ ذوي الدخل المحدود، لأنّهم، هم بالذات، من يتعيّن عليهم دفع الأثمان الباهظة لخطط "الإصلاح"، التي لا تُقدّم سوى الحلول المعهودة من تقليص أو حتى رفع الدعم عن أسعار مواد غذائية حيوية.
ورغم أنّ الحكومات تلجأ، في أغلب الأحوال، إلى إلقاء اللائمة في تلك التحرّكات على "تدخّلات خارجية" وما إليها، إلا أنّ التجربة برهنت على أنّ غالبية هذه الاحتجاجات تنطلق عفوياً من غضب الشارع، وأنّ الأمر خارج سيطرة حتى الأحزاب السياسيّة، لا بل إنّه في بعض أوجهه كان تمرّداً عليها هي نفسِها، لا على الدولة وحدها وسياساتها، وهذا ما وسم، إلى حدود كبيرة، بعض التحرّكات التي شهدتها حتى بلدان أوروبية مُتطوّرة مثل فرنسا، حين اندلعت فيها الاحتجاجات التي عُرفت بتحرّك "السترات الصفراء".
ليس الفقراء وذوو الدخل المحدود وحدهم من تطاولهم بالتأثير السلبي وصفات المانحين الماليين، وإنّما، أيضاً، قطاعات واسعة من الفئات الوسطى، ولو أخذنا بلداننا العربية مثالاً، لوجدنا أنّ بعض الباحثين يتحدّثون عما يصفونه بـ"انشطارات" الطبقة الوسطى، في إشارة إلى أنّ هذه الطبقة ليست كتلة واحدة، وإنّما هي فئات متنوّعة، وأحد أسباب ذلك هو تعدّد وتنوّع المنابت الاجتماعية لهذه الفئات، وهو الأمر الذي ينعكس على تكوين مزاجها السياسي والفكري، الذي يبدو، هو الآخر، متنوّعاً ومتعدّداً، وهو أمر نجد تجليّاتٍ له واضحةً في مجتمعاتنا الخليجية، التي تُشكّل حالةً خاصةً في خصائص تطورها الاجتماعي، وبنيتها الاقتصادية القائمة على الاقتصاد الريْعِي، ومع الأزمات الاقتصادية العالمية، والتوتّر الإقليمي بأبعاده الدولية، وتقلّبات أسعار الطاقة، إضافة إلى سوء الإدارة والإنفاق وآفة الفساد، فإنّ بعض الحكومات تعجز عن الوفاء بكثير من التزاماتها الاجتماعية التي اعتادها مواطنو هذه الدول، ما يدعو إلى الوقوف بجدّية أمام الآراء التي يَلحَظُ أصحابها أنّ استمرار ارتفاع الأسعار والتضخّم المتزايد، وثبات الأجور عند حالها، تؤدي موضوعياً إلى تآكل الفئات الوسطى، وتعرّض أجزاء منها للإفقار، وهو أمر يمكن أن يزداد في الفترة المُقبلة أيضاً، وطبيعي أنّه تترتب عن ذلك مفاعيل اجتماعية واقتصادية عدّة، خاصة إذا ما تذكّرنا القاعدة القائلة إنّ الفئات الوسطى هي حافظة التوازنات الاجتماعية.
للأمر جانب آخر على قدرٍ كبير من الأهمّية، يتّصل بسيادة الدول وقراراتها الداخلية، فإذا ما ارتهنت الحكومات في نهجها الاقتصادي، الذي هو العصب الأساسي لأيّ مجتمع، إلى "الهوامير" من المانحين الماليين الدوليين الذين يُملون عليها شروطهم قسراً، فعن أيّ سيادة بعدها نتحدث؟