اللبناني "مواطن مستقر" في عالمه الخاص

03 يوليو 2022
+ الخط -

قال المفكّر الفرنسي، إيتيان دو لابواسييه، في كتابه "العبودية الاختيارية"، عندما يتعرّض بلد ما لقمع طويل تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج الحرية، بل تتواءم مع الاستبداد، عندها يظهر فيه ما يمكن أن نسميه "المواطن المستقر". إذ، بحسب لابواسييه، هو الذي اختار الخضوع لسلطة زعيمه، ولم يعد لديه القدرة على التغيير ولا حتى يريد ذلك، إذ يعيش في عالم خاص به، وتنحصر اهتماماته في ثلاثة أشياء: لقمة العيش وكرة القدم والدين.

يجد المواطن المستقرّ في كرة القدم، على سبيل المثال، تعويضاً له عن أشياء يُحرَم منها في حياته اليومية، إذ تنسيه همومه وتحقق له العدالة التي حرم منها، لأنها خلال 90 دقيقة تخضع لقواعد واضحة عادلة تنطبق على الجميع، بينما هو يفتقدها في واقعه المعيش. أما عن الحرية المفقودة عند مواطنين كهؤلاء، فيقول لابواسييه: "كي تغدو الحرية تبدو وكأنها شيء لا يمتّ إلى الطبيعة البشرية بصلة، يجب أن تبقى بعيدة المنال، وتكون من نسج خيالات بعضهم". لهذا، بحسب زعمه، "الحرية التي يبحث عنها الإنسان ما زالت متنازلاً عنها في مكان ما، ومنقوصة ومزيفة في مكان آخر". ويضيف: "الحيوان لا يتنازل عن حريته إلا بعد دفاع مستميت، ولكن الإنسان يفعل ذلك بسبب الحاجة أو الخوف أو غياب الوعي".

إذا كان المواطن المستقر عند لابواسييه قد تنازل طوعاً عن حريته لأي من الأسباب الثلاثة التي طرحها، فكيف سيكون الحال عند اللبناني الذي قرّر، طوعاً أيضاً، أن يتنازل عن حريته للأسباب الثلاثة على حدّ سواء؟ عندها لا يكون مواطناً مستقراً، بل مسحوقاً من حاكميه. إنه يرزح تحت عبء أكبر أزمة اقتصادية تضرب تاريخ هذا البلد، حيث زادت نسبة الفقر وارتفعت أعداد العاطلين من العمل، كما يشهد مطاره الدولي زحمة مهاجرين إلى أصقاع الأرض، إضافة إلى ارتفاع ملحوظ في أعداد المنتحرين، ومرتكبي الجرائم. وسط اشتداد الأزمة الاقتصادية، وارتفاع منسوب التفنن في إذلال المواطن في طوابير أمام الأفران ومحطات الوقود والصيدليات وغيرها، التي ما إن تختفي حتى تعود، تراه يعيش متقبّلاً للواقع بصمت مخيف.

فشل المواطن المستقرّ في تغيير سلوكياته بما يتناسب مع المتطلّبات لقيام ثورة حقيقية.

أمام هذه الصورة السيكونية التي يعيشها اللبناني يومياً، تجده لا يعيش الثورة الحقيقية من أجل تغيير الأوضاع، ولا حتى يعبّر عن نقمة "القرف" من هذه الطبقة التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه، بل جلّ ما تراه، أنه اعتاد هذا النمط من الحياة، لا بل تكيّف به، لدرجة أنه ساعد في إعادة إنتاج الطبقة السياسية نفسها، في استحقاق نيابي هو الأهم في دستور هذا البلد.

رغم ما يعانيه من إذلال وقرف، وفي ضوء ما وصلت إليه أوضاعه الاقتصادية وسوء حياته الاجتماعية والاقتصادية على حدّ سواء، إلا أنه لم يستغلّ فرصة التغيير القانونية التي يمتلكها في صناديق الاقتراع في المجلس النيابي. حيث أعادت أصوات المواطن المستقر تشكيل مجلس نيابي مكوّن من الكتل النيابية نفسها التي مارست سياسات الهدر والفساد عقوداً.

حين خرج الناس إلى الشارع في 17 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019، ظنّ كثيرون أنّها بداية يقظة الوعي التحرّري الذي سيقود الناس إلى انطلاقة الثورة الحقيقية التي رسمت شعاراتها من ساحات بيروت، وعمّت المناطق اللبنانية جمعاء. راهن كثيرون على قدرة اللبناني في قلب المقاييس، وإيصال السلطة التي استحكمت بالبلاد والعباد إلى المحاسبة، ولكن شيئاً من هذا لم يحدُث؛ فلا الثورة حققت مبتغاها، ولا السلطة خضعت للمحاسبة عمّا جنت يداها. بل جلّ ما أدركه اللبناني أن تلك المظاهر الحراكية شدّت العصب الطائفي والحزبي أكثر عند المحازبين، وأيقظت شرارة العصب الطائفي من سباته، عندما أطلقت شعارات "شيعة، شيعة". وترجمت هذه الاصطفافات على شكل مشكلات كانت تتنقل بين منطقة وأخرى، مع المنتسبين إلى الأحزاب والمؤيدين لها والمتمركزين داخل جدار الطائفية من جهة، وبين حراكيين رفعوا شعارات التغيير من دون إحداث خرق في الوعي العام المسيطر، أوتقويضه من جهة أخرى.

المواطن المستقر هو العائق الحقيقي أمام كل تقدّم ممكن

ما حدث في الشارع، حدث كذلك في صناديق الاقتراع، فقد فشل المواطن المستقرّ في تغيير سلوكياته بما يتناسب مع المتطلّبات لقيام ثورة حقيقية. أمام هذا الفشل في إخراج المواطن من استقراره، عمدت السلطة إلى سحقه بوابلٍ من الإجراءات التي زادت نسبة الخوف والجوع لديه من خلال التلاعب في رفع سعر صرف الدولار أمام العملة الوطنية، ما أفقده الوعي عن دعوته إلى التحرّر، فأصبح أقصى هدفه تأمين لقمة العيش أو حبّة الدواء، أو دفع رسم اشتراك مولّدات الكهرباء أو غيرها الكثير.

لم يدرك هذا المواطن المقترع أهمية إحداث التغيير، وإيصاله إلى المجلس نواباً يستطيعون قراءة الواقع بوطنيةٍ عالية، قادرة على وضع استراتيجيات تستند إلى رؤية صحيحة تعيد تنظيم الأزمة الاقتصادية. مجلس يستطيع إفراز حكومة تكنوقراطية متحرّرة من سلطة الطبقة الحاكمة والمستحكمة في زمام أمور البلاد، لديها المقدرة على محاكاة مؤسّسات المجتمع الدولي، ولا سيما صندوق النقد الدولي، وهذا ما صرّح به وزير الاقتصاد في حكومة معاً للإنقاذ، برئاسة نجيب ميقاتي، في مداخلة تلفزيونية أخيراً أن "لا خروج للبنان من وضعه الحالي إلا بمحاكاة صندوق النقد الدولي".

أخيراً، يبقى المواطن المستقر هو العائق الحقيقي أمام كل تقدّم ممكن، ولن يتحقق التغيير إلا عندما يخرج هذا المواطن من عالمه الضيق، المتجمّد، وينخرط في مجتمعه وقضاياه، ويتأكد أن ثمن السكوت والعزوف عن المشاركة أكبر بكثير من عواقب عدم المشاركة وإحداث التغيير المطلوب.

B3845DCD-936C-4393-BC7F-0B57226AC297
B3845DCD-936C-4393-BC7F-0B57226AC297
جيرار ديب
كاتب وأستاذ جامعي لبناني
جيرار ديب