اللبنانيون فقراء جُدُد بوجه الأقدم فقراً
اللبنانيون الآن فقراء جدُد. هكذا بين ليلة وضحاها. انهيار اقتصادهم، ومعه انهيار شبكات الأمان المعوّضة عن الهشاشة الأصلية لهذا الاقتصاد. وحشٌ سياسي انقضّ عليهم، وأغرقهم في ذعر وجودي يتفوق على الوسواس. تخطر ببالهم كل الشرور، كل الشياطين. فقراء جدد، يفقدون توازنهم النفسي، وأحيانا بصيرتهم. هم ليسوا حالة اقتصادية كلاسيكية، كصراع الطبقات مثلاً. هم ليسوا طبقة بروليتارية تصارع أرباب العمل على حقوقها، رواتبها، تأميناتها، صرفها. هم ليسوا مستغَلين كما كان عمال المصانع. ولا نظرية "فائض القيمة"، العبقرية، الماركسية تنطبق عليهم. ثم إنه لو افترضنا ذلك، فأين "الدولة" بقوانينها ومؤسساتها. تفاوضهم، تقف بينهم وبين أرباب العمل، تصدر تشريعات، تسهر على تطبيقها .. إلخ. ولا هم منظّمين بقيادة حزب، أو أحزاب، دفاعاً عن مصالحهم الاقتصادية. ليس بينهم "عصبية طبقية" تصنع تلاحمهم وتحالفاتهم وترسم تكتيكاتهم، تجمع طبقاتٍ أخرى ذات مصلحة وتنظم فعالياتهم ونضالاتهم: تظاهر، إضراب، اعتصام .. ولا حتى وعد بأن حقوقاً قليلة سوف تنتزع، أو أن الحياة ستكون أيسر.
هذه الوجهة الماركسية للانعتاق من النظام الاقتصادي الاستغلالي .. ليست واردة. فهم أولاً، خرجوا لتوهم من طبقة، تتراوح بين الميسورة والمتوسطة وأدنى منها. ذكريات البحبوحة، النسبية، ما زالت عالقة في مذاقهم وذوقهم. لم يتمرّسوا بعد على أشكال التعامل مع الفقر، فهم الآن، في قلب عملية الإفقار. لا يعرفون قعرها. ولا تنفع تحليلات الاقتصاديين لإرشادهم، أو إفهامهم كيفية الإفلات من مخالب الفقر. كيف لهم ذلك، وقد انقضت على جيوبهم أشكالٌ مبتكرة من سرقة أموالهم، وأشكال أقل ابتكاراً من البطالة. هم ليسوا معرّضين للاستغلال، إنما لسرقة موصوفة، معقدة، يشترك فيها أركان "الدولة" أنفسهم بالتواطؤ الصريح مع المصارف .. وبقية الحكاية التي باتت معروفة. ولكنها مستعصية عليهم. ثم إنهم لم يستقروا حتى الآن على فقر بعينه. ما زال الوقت يأتي لهم بمزيد منه. أي أن عملية الإفقار مستمرّة، ولم ترتسم حتى الآن هاويتها. أي أن الأقل فقرا من بينهم قد يجد نفسه بعد أيام، أو أشهر، ملتحقاً بالجائعين، الباحثين عن كيفية سدّ رمق، أو عن بقية روح. فإذا كانوا في عزّ هذه المحنة غير مسلحين بـ"النظرية" الاقتصادية التي تجمعهم وترسم استراتيجية خروجهم من ذاك الهلع الوجودي ... كيف لهم أن يعبروا عن هذه المحنة؟ أن يتخيّلوا بهذا التعبير أنهم سوف يخرجون منها سالمين غير هالكين؟ ماذا يبقى في جعبة أتعسهم ليُخرجوا غضبهم، ليرفعوا صوتهم عالياً ضد الجوع العاري؟ الجوع الذي يهدّد حياتهم نفسها؟
الفقراء في لبنان ليسوا طبقة بروليتارية تصارع أرباب العمل على حقوقها، رواتبها، تأميناتها، صرفها. ليسوا مستغَلين كما كان عمال المصانع.
تبقى "الهوية". وهي بدورها تلاعبهم، تتنقل بهم. تارّة تكون طائفية، عادية، كالتي ألِفَها اللبناني منذ نشأة لبنان. وتارّة أخرى تكون "وطنية": لبنانية ضد.. أي كائنٍ غير لبناني على وجه البسيطة اللبنانية. وأحياناً بتقاطعٍ بين الاثنتين، الوطنية واللبنانية. الأولى، الطائفية، معروفة، تعمل بتقاليدها العريقة. وتدّعي دائماً بأن سبب بلية الفقر الجديد هو طائفة أخرى، مذهب آخر، تتآمر من أجل الاستحواذ على "الثروة" .. وهكذا. أما الثانية، الوطنية، فوجدت ضالّتها بالأفقر منها، بالأكثر شقاء منها، أي غير اللبنانيين على الأراضي اللبنانية. وأبرز هؤلاء هم اللاجئون السوريون، الموزَّعون على مخيمات بلاستيكية، بفقرٍ أكثر سحقاً، بفقرٍ يتجاوز الخيال. وحينما تكون جبهة العدو الطائفي منطفئة، غير شغالة، لسببٍ من الأسباب .. تخرج الهوية "الوطنية" لتشير إلى أن الضحية المختارة، المسؤولة عن هذا الفقر، هم السوريون الموجودون على أرضها.
طبعاً، لا يمكن إغفال أن كبوش المحرقة السوريين خضعوا لتحريضٍ صافٍ من رئيس الجمهورية وصهره المعجزة. عند كل مناسبة كبرى أو صغرى، يكون لهذين الشخصين كلام مسموم عن اللاجئين السوريين، عن كونهم عطَّلوا الإصلاح، وأفرغوا خزينة الدولة، واستنزفوا البنى التحتية .. إلى ما هنالك مما باتَ أشبه بالقيل والقال. وكلماتهم هذه وجدت آذانا صاغية، في بيئتهم القريبة وفي بيئاتٍ طائفيةٍ منافسة، هي من حيث المبدأ الطائفي على صراع معهما.
مزايدات النظام السوري على الجريمة بحق مخيم المنية، دموع التماسيح المنهمرة على أبنائه .. أبرزت ما يشبه الصمت اللبناني الرسمي حولها
الفقراء الجُدد العاجزون عن مواكبة ما يحصل لهم، أو حتى فهمه، هم الأكثر استجابةً لهذا التحريض، فموضوعه بمتناول اليد، في المخيم السوري القريب. وهو ليس صعب المنال، طالما أن لا شيء يحمي هؤلاء البائسين من الغضب الغريزي لأولئك الفقراء. فقراء جدد ضد الأقدم فقراً. في القرية الشمالية المارونية، بشرّي، ومنذ أقل من شهر، تعرّضوا للهجوم وللطرد، فهاموا على وجوههم، وتناثروا، ولم يتابع أحدٌ مصيرهم. ولكن الأشرس كانوا من أبناء طائفتهم. في المنية العكارية، الخزّان اللبناني السنّي، ومن قبل أفراد عائلة عريقة بسنّيتها. كان هجوم هؤلاء على المخيم بالحرق والرصاص، ما دمَّر المخيم، وحوّل أهله إلى متشرِّدين عراة ثانية، فوق تشرّدهم الأول. الخلاف الذي أشعل فتيل الهجوم على المخيم كان في أموالٍ لم يقبضها عمالٌ من لاجئي المخيم يعملون لحساب أفراد هذه العائلة. طالبوا بحقوقهم، وهذه شجاعة اليأس، فكان خلافٌ ثم هجوم حارق.. والنتيجة، فوق ضيق العيش السوري قديم، ثمّة ضيق لبناني يدركه، ويحوِّله إلى جهنم حمراء.
مزايدات النظام السوري على الجريمة بحق مخيم المنية، دموع التماسيح المنهمرة على أبنائه .. أبرزت ما يشبه الصمت اللبناني الرسمي حولها. وخصوصاً صمت الذين كانوا يعتبرون أنفسهم بالأمس أنصار الشعب السوري وأعداء قادة نظامه. كل الكلام القليل الذي صدر هنا وهناك كان مثل غيمةٍ عابرة. لا اهتزّت أركان أصحابها، ولا أركان خصومهم. والصمت هذا طائفي بامتياز. فالعائلة المهاجِمة سنّية، والزعماء الذي أيدوا، في يوم من الأيام، الثورة السورية سنّة في غالبيتهم. كيف يتصرّفون في هذه الحالة؟ هم الحريصون على كراسيهم، المستقتلين من أجلها؟ يصمتون، حفاظاً على "القاعدة" الشعبية السنّية التي ستقترع لهم بعد سنتين، الموعد الرسمي للانتخابات النيابية اللبنانية. أو هكذا يتصوَّرن.
التراث اللبناني يحفل بـ"غرباء" يتقلّبون، تبعاً لهذه أو تلك من الأهواء. والأهواء، ولا مرّة كانت بريئة
وهذه الوضعية تستحضر أخرى، حصلت منذ أربعة عشر عاماً. ولكن بأسباب "مخفّفة". يومها، لم تكن هناك ثورة سورية، ولا تعاطف سنّي معها، ولا استنكار لانقضاض حزب الله عليها: ففي أوائل سنة 2006، حصلت تظاهرات همجية نظّمتها مجموعات سلفية سنّية، احتجاجاً على نشر رسومات كايكاتورية للنبي محمد، بريشة فنان دانماركي. كانت حفلة هياج من النوع التي تصنعها المشاعر الدينية الملتهبة. وهجوم على حي الأشرفية المسيحي. ورمي حجارة على بيوت أصحابه، ونهب بعضها، وحرق إحدى كنائسه. رئيس الوزراء وقتها، فؤاد السنيورة، وفي ليلة التظاهرة، أعلن أن الذي وقف خلف هذه التظاهرة عمال سوريون وفلسطينيون، يأتمرون بأوامر النظام السوري. ولكن بعد حين، خرجت الأعداد الحقيقية: المتورّطون في العملية هم 137 شخصاً: 111 منهم لبنانيون، فضلاً عن 16 سورياً و10 فلسطينيين. كيف نفسِّر إسراع السنيورة في رمي اتهامه الباطل هذا؟ كما نفسِّر الآن سكوته، وسكوت نظرائه عن الهجوم على مخيم اللاجئين في المنية، بأنه لا يريد إيذاء مشاعر السنّة الذين يشكلون قاعدته الانتخابية. أما الأحزاب المسيحية وقتها فلم تكذِّب السنيورة. إذ كان يلائمها تماماً أن يكون ثمّة "أغراب"، غير لبنانيين متّهمين بالهجوم على أحيائها.
والتراث اللبناني يحفل بـ"غرباء" يتقلّبون، تبعاً لهذه أو تلك من الأهواء. وهذه الأخيرة، أي الأهواء، ولا مرّة كانت بريئة. فما بالك اليوم؟