الكوفيةُ الفلسطينية حين تصنع الحدثَ

30 يوليو 2024

مغربية تلبس الكوفية الفلسطينية في مسيرة تضامن مع غزة في الرباط (10/12/2024 فرانس برس)

+ الخط -

ما كان المرء ليتصوّر، سنين قليلة قبل هذه الفترة المظلمة البئيسة، التي اختارنا حظّنا العاثر للعيش فيها، أن يُحدث ما حدث في المدرسة العليا للتكنولوجيا بالدار البيضاء، حينما رفض عميد كلية العلوم ابن مسيك (الدار البيضاء)، وهو الضيف على تلك المدرسة، أنّ يسلّم جائزة التفوّق لطالبة مغربية أصيلة اسمها خديجة أحتور، لمُجرّد أنّها تضع على كتفيْها الكوفيّة الفلسطينية. كان هذا التصرّف المشين كافياً لتأجيج النيران في مواقع التواصل الاجتماعي الوطنية والعربية والدولية، حيث أظهر بكيفية صارخة تفقأ أعين من لا عيون لهم بأنّ القضية الفلسطينية كانت ولا تزال محطّ إجماع كلّي من المغربيات والمغاربة قاطبة، إلّا إذا استثنينا شرذمة لا تكاد تبين، برزت لتؤكّد القاعدة كما هو الأمر في جميع ما خلق الله من القضايا البشرية. فالطالبة المتفوّقة في الدراسة وفي المبادئ، التي حاول عميد كلّية العلوم أن ينزع الكوفية من على كتفيها، رفضت بعزّة وإباء، لتعطي بذلك درساً تاريخياً ليس للمغاربة والعرب فحسب، بل للمتشبّعين بالمبادئ الإنسانية النبيلة كلّهم، ولجميع المنافحين عن القضايا العادلة عبر العالم.

 حسابات صهيونية بأسماء مغربية مزيّفة تلمّع صورة العدو البشعة بالمزج في أذهان المغاربة بين اليهود والصهاينة

أما مدير المؤسّسة، الذي حلّ محلّ العميد وتقدّم بثقة وعزم لتسليمها تلك الجائزة، فهو وإن استحقّ أن ترفع له القبّعة عن جدارة واستحقاق، فهو لم يعبّر نيابة عن جميع مواطنيه سوى بعمل عاديّ كان من الممكن أن يقوم به، بفخر واعتزاز وحماس، أيُّ مغربي ومغربية مُنِحت لهما الفرصة لفعل ذلك. وقد وصلت هذه الواقعة برجّاتها الحادة وتماوجاتها العنيفة أيضاً إلى قبّة البرلمان، حيث إنّه خلال جلسة الأسئلة الشفوية بمجلس المستشارين، علّق وزير التعليم العالي، عبد اللطيف الميراوي، بنوع من الحذر والغموض قائلاً: "ربّما يكون العميد على خطأ، ووارد أن يُخطئ الإنسان". وكان حريّاً به أن يزيل "ربّما" من جملته، لينسجم ردّه مع موقف الطالبة المتفوّقة. لأنّ "ربّما" تحتمل الخطأ وتحتمل الصواب بنسب متكافئة، في حين أنّ القضية الفلسطينية، التي هي قضية أمّة بأكملها، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا ترقى إلى عدالتها ذرّة من شكّ أو ارتياب. لهذا نصحّح، ونقول من دون التباس، إنّ العميد قد أخطأ. نقطة أول السطر. كما أنّه إذا كان وارداً أن يُخطئ الإنسان، فإنّه يخطئ في القضايا الملتبسة التي يكتنفها الغموض والشبهات، أما أن يُخطئ في التنديد بسفّاكي دماء أفّاكين ظلمة، احتلّوا أرضاً ليست أرضهم، وأعلنوها حربَ إبادةٍ طاحنةً على رؤوس الأشهاد، حينما قتلوا وما زالوا يقتلون عشرات الآلاف من الأبرياء العزّل بتدمير المنازل فوق رؤوس أهلها، ونهج سياسة الأرض المحروقة، فأيّ خطأ يمكننا استساغته في هذه الحالة، اللّهم إذا استسغنا أن تُخطئ النملة في رؤية جبل منتصب أمامها، وبحثنا لها عن التعليلات التافهة والمبرّرات السخيفة كلّها.
ورغم ما حظيت به الطالبة من تضامن شعبي منقطع النظير، منه، على سبيل المثال، إصدار بيان من مكتب الطلبة بالمدرسة ذاتها، تم تداوله في نطاق واسع، عبّر فيه الطلبة عن استنكارهم لهذه الواقعة، معتبرين أنّ الأمر ينطوي على "إهانة" للقيم الأكاديمية والإنسانية التي تقوم عليها المؤسّسات التعليمية. كما نلخّص وقائعه في زوبعة عارمة من التنديدات الشديدة، التي عصفت من كلّ حدب وصوب، وبشكل مثير، إلى أن أصبح هذا الحدث حديث الناس والساعة في المقاهي والمنازل والمؤسّسات. لكن، رغم هذا التضامن الكبير، فقد انبرت فئة قليلة من الناس للدفاع المستميت عن العميد، وكأنّ هذه النازلة كان لها الفضل الكبير في إخراج الجرذان من جحورها. فمن قائلٍ أنّ "تازة قبل غزّة"، الشعار التافه لبعض المطبّعين من النخبة المُرتبطة بالدولة العميقة، وأنّه لا ينبغي أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم. ومنهم من ادّعى أن الجامعة وُضعت للدراسة والتحصيل، وليس للتبجّح بحمل كوفيةٍ لن تكسر شوكة جيش الاحتلال الإسرائيلي، ولو حملها سكان الأرض والمرّيخ مجتمعين. ومنهم من ادّعى أنّ القضية الفلسطينية لا تعنينا في شيء وأنّنا نعيش في قارّة وهم في قارّة أخرى، وأنّ ما ينبغي أن نركّز عليه اهتمامنا هي قضية وحدتنا الترابية فحسب. ومنهم من ذهب بعيداً جداً وزعم أنّ حركة حماس هي من فتحت على الفلسطينيين باب جهنم، وأنّ إسرائيل لم تقم سوى بالدفاع المشروع عن نفسها، وهي مُحقّة في ذلك... إلى غير ذلك من تبريراتٍ تافهة تثير التثاؤب بقدر ما تثيره من السخرية.

عزاؤنا أنّ الشعوبَ حيّةٌ ترفع صوتها مرفقاً بالكوفيات، وباقي الرموز الفلسطينية، المتداولة عبر العالم

بغضّ النظر عن وجود عناصر محدودة يعجبها أن تسبح ضدّ التيار، ويستهويها أن تخالف التوجه السائد كي تشدّ إليها الأنظار، هنالك حسابات صهيونية بأسماء مغربية مزيّفة تعمل في خلط الأوراق، وتشتغل جاهدة لتلميع صورة العدو البشعة، عبر محاولة المزج في أذهان المغاربة بين اليهود والصهاينة، وجعلهم في كفّة واحدة، قصد الوصول إلى استنتاج مفاده أنّ من بين هؤلاء وأولئك، يوجد من لهم جذور مغربية أصيلة، وأنّهم ليسوا سوى مكوّن من مكوّنات مجتمعنا المغربي، الذي كان له حضور وازن قبل أن يدخل الإسلام إلى هذه الربوع. ومن ثم، هُم أقرب إلينا من حبل الوريد، وهم أوْلى بتضامننا من فلسطينيين تُباعد بيننا وبينهم آلاف الكيلومترات.
هذه الحرب الإعلامية الشرسة التي تبرع فيها الدعاية الصهيونية، التي يمكن منابعتها يوميّاً في الشاشات الفرنسية، وهي تبرّر كلّ غارة بالبحث عن عناصر إرهابية خطيرة، ينبغي أن نحذر منها كثيراً لأنّها هي من أوصلتنا إلى هذا التردّي الفظيع. والغريب الذي يثير الحيرة، هو هذا الصمت الصارخ والمريب الذي يكاد يكسر آذان الصخور الصمّاء من لدن معظم الأنظمة العربية والإسلامية حول قضية غزّة العزّة. صمت القبور الذي لا يمكن تفسيره إلّا بانتمائهم إلى ذاك العالم. وعزاؤنا أنّ الشعوبَ حيّةٌ ترفع صوتها مرفقاً بالكوفيات، وباقي الرموز الفلسطينية، التي أصبحت متداولة عبر العالم، يرفعها الأحرار في كلّ الساحات والمواقع، في انتظار فجر نراه قريباً ويراه المطبّعون مع الاحتلال والإبادة والقتل بعيداً.