الكسكسي الليبي أم حفتر؟
حسنا فعل سفير ليبيا في "اليونسكو"، حافظ الولدة، لمّا أوضح أن عدم إدراج المنظمة الأممية الكسكسي الليبي، في 16 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، في قائمتها للتراث الثقافي غير المادي، مع الكسكسي في الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا، يعود إلى عدم توقيع بلاده على اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي. وكان سوء الظن قد جعل بعضنا يخمّن أن الدول المغاربية الأربع هي التي استبعدت ليبيا عند تقديمها ملفّا مشتركا إلى المنظمة المعنية بالثقافة والتربية والعلوم، بشأن الأكلة الشهية، سيّما وأن الجزائر فعلتْها في سبتمبر/ أيلول 2016، عندما تقدّمت، منفردةً، بملفٍ في هذا الخصوص، ما أغضب المغرب، قبل تدارك أزمةٍ طفيفةٍ بين البلدين كانت قيد الحدوث.
ليس مناسبة هذا المدخل إلى الموضوعة الليبية، في مستجدّها منذ أيام، زعل الليبيين، كما عبّروا عنه في "السوشيال ميديا"، من القصّة أعلاه، وإنما أن السفير الأميركي في ليبيا، ريتشارد نورلاند، غرّد، قبل أيام، إن "أشياء كثيرة توحّد الليبيين أكثر مما تفرّقهم، وتوحّدُهم على طبق الكسكسي يمكن أن يكون مثالا لإحراز تقدّمٍ في مجالاتٍ أخرى". ولكن كلاما كهذا يظلّ استعاريا، وشغل السياسيين لا يتعلّق بالأخيلة والمجازات، سيما الأميركيين منهم، يمقتون الحديث في التاريخ والوجدانيات، ويُؤثرون المباشر والعملي والآني. ومن هذا الباب، عندما اجتمع السفير نفسه، يومين قبل تغريدته تلك، مع وزير الداخلية الليبي، فتحي باشاغا، وآمر غرفة العمليات الميدانية في عمليات "بركان الغضب"، اللواء أحمد أبو شحمة، لم يناقش معهما، ومع عسكريين رفيعين شاركوا في الاجتماع، طريقة طهي البصل على البخار عند تهيئة أكلة الكسكسي، وإنما "آفاق التعاون الأمني بين طرابلس وواشنطن". والرّاجح أن مقاربة الولايات المتحدة في الملف الليبي ستّتجه إلى دفعٍ أقوى لعمليةٍ سياسيةٍ تنفتح على خيارات التوافق وبناء منظومةٍ أمنيةٍ وهيكليةٍ سياسيةٍ تغادر فيها ليبيا الثنائية الراهنة، حكومة الوفاق في الغرب ومليشيات خليفة حفتر في الشرق، وإن احتاج هذا تعاونا مع تركيا، الفاعل الأكثر قدرةً على الحسم الميداني، واستعانةً بمصر التي باتت تميل إلى شيء من التوازن في اتصالاتها مع الأطراف الليبية، وربما لن يكون مفاجئا ازورار القاهرة عن حفتر قريبا، وإنْ خصّته أخيرا بزيارةٍ له أدّاها مدير المخابرات المصرية، عباس كامل، في بنغازي.
يقول مثلٌ ليبيٌّ بالدارجة "تيجي تِفهم تدوخ". والبادي أن دوخاناً يريدُنا أن نتورّط فيه الأسير السابق في تشاد، خليفة حفتر، المسمّى، في إعلام داعميه، قائد الجيش الليبي الوطني، وقد أجبرتْه هزائم منكرةٌ لحقت بمليشياته قبل الصيف الماضي، على وقف عدوانه الخائب، بعد جرائم مشهودة، على العاصمة طرابلس، لمّا صنع الفاعل التركي ما صنع. يريدُنا حفتر أن ندوخ في تفسير قيامته، يوم الخميس الماضي، بعد انكفاءٍ شهورا، ليعلن أن "لا خيار إلا رفع راية التحرير من جديد"، ويدعو مليشياته إلى "حمل السلاح مجدّدا لطرد المحتل التركي". هل أعطتْه القاهرة ترخيصا يشجّعه على إطلاق كلامٍ ثقيلٍ من هذا النوع، في أصبوحته مع عباس كامل الأسبوع الماضي؟ الجواب المرجّح: لا. .. هل أراد تذكير الجميع بوجوده، بأنه رقم حاضر، ولا يمكن إغفاله، سيما بعد جولات حواراتٍ ليبيةٍ (شجّعتها واشنطن) لم يكن موضوعه مطروحا فيها تماما، في بوزنيقة وطنجة المغربيتين وفي تونس، ثم في غدامس؟ الجواب المرجّح: نعم. .. ولكن رئيس المجلس الأعلى لدولة ليبيا، خالد المشري، سارع إلى تهديدِه بأنه إنْ أقدم على أي عملٍ عسكريٍّ عدوانيٍّ فستكون نهايته هذه المرّة. أما وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، فقالها في أنقرة، بعد مباحثاتٍ شديدةِ الأهمية والحساسية، أجراها في طرابلس، إن قوات حفتر لن تجد مكانا تفرّ إليه إن أقدمت على أي اعتداء.
قرار أنقرة واضح، من علائمه إن شراء زيٍّ عسكريٍّ من السوق، ووضع رتبٍ على الأكتاف، لا يصنعان مارشالا، على ما عبّر الوزير التركي البليغ. وقرار الليبيين في مساره إلى أن يصير أكثر وضوحا. والقاهرة تمضي إلى إزالة ما تتعثّر به خرائطُها في ليبيا من تشوّش. أما الولايات المتحدة، فالوضوح المرتقب منها، في زمن بايدن، قد يوظّف الكسكسي موحّدا لليبيين، من دون رهانٍ عليه طبعا، مع تفاصيل أخرى، ستُساهم في صياغتها، للعبور إلى انتخابات ديسمبر/ كانون الأول 2021 .. أما حفتر فموضوعه قيد الانتهاء.