الكتابة ... تقول مقاصدَها وأنت نائم
موظف هش، و"ابن ناس"، يترك مدينته الصغيرة وإرثه القليل ويرحل إلى المدينة "القاهرة"، في منتصف الستينيات من القرن الماضي، إلى غرفةٍ وصالةٍ في سطوح عمارة عالية هناك، علّها الظاهر، أو السيدة زينب. ويكتفي هناك بالستر. ولا تنغّص الذكرى على روحه، علّه كان يحبّ القراءة أو الوحدة أو الابتعاد عن مواطن الألم، وخصوصا الروحي والقيل والقال، وكان اسمُه "فلانا". وفقط اكتفى هناك باستقبال بعض الضيوف في غرفته، أو إلى شقته بعدما باع جزءا من إرثه، إلا أن شبّاك الأمل كان قد أغلقه تماما على روحه، وخصوصا فيما يتعلّق بالحب أو الأحبة، واكتفى بنقل السير الشفاهية من بعض أقطار الوطن العربي، وخصوصا من أرياف الجزائر والمغرب وتونس، بعد ما وفرت له وظيفته المحترمة فرصة الأسفار من دون دفع ثمن أو إراقة ماء وجهه.
كان فرحه بتلك الأعمال عن السير والحكايات المنقولة يمثل فرحه الخاص جدا من دون مباهاة به أو أي شيء، كحصالة لروحه فقط. يتأملها كل آن، وخصوصا حينما يستمع لحديث عن سيرة الرعاة في قرى تونس الجنوبية أو غيرها، ويسجّل ذلك في دفاتره، وأحيانا "بالكاسيت". هل هو "فلان"، ذلك الذي كتبت عنه تلك القصة التي نشرتُها في "شؤون أدبية" من 30 سنة، ولا أعرف حتى أين ذلك العدد، رغم أن صديقي مصطفى قال لي من 20 سنة: "من سنوات، وأنا في مكتبة الكونغرس في بعثة لأميركا لدراسة الأدب كنت ضجرانا من كل قراءة، وفجأة وجدت نفسي أقترب من صف المجلات الأدبية الآتية من دول الخليج، وقرأت قصتك الجميلة عن فلان". وابتسم صديقي مصطفى، كي يغريني "بتمساحية" الباحث أن يعرف "فلان"، فابتسمتُ وقلتُ له مندهشا ومسرورا أيضا بعدما تخيّلت قصصي على أرفف مكتبة الكونغرس: "والله، يا دكتور، الشخصيات عندي. وإن كنت أعرف فيها فلانا من علان، إلا أنها تختلط وتمتزج ولا أعرف بعد السنوات أن أفصّل فيها أو منها رائحة روح فلان عن روح علان"، فابتسم وأعاد علي مناخها، والغرفة، وطيبة فلان. وأشار إلى بعض الأماكن في القصة التي نسيتها، ولم أنس مناخها أو طيفها في روحي، فأحسستُ أنه، بحسّه النقدي، ولمعرفته بالأجواء قد استطاع أن يُمسك "حرير الشخصية" تماما، وهو على حافّة أن ينطق باسم "فلان" حرفيا. ولكن من فرط أدبه يخفي ذلك، وخصوصا حينما حدس مني محاولة، مقابلة له، للهروب من تحديد هوية فلان أو اسمه حتى انتهى النقاش إلى مواضيع أخرى. وأنا نسيت الموضوع تماما سنوات أخرى. فجأة وأنا في المقهى، دار الحديث عن أطراف المدن، ومن ذهب منها من سنوات ولم يعد، وإنْ عاد يعود زائرا وعلى استحياء وخجل، وإنْ مكث ليلة أو ليلتين يظل حبيس بيت أخته غير الشقيقة، ويظلّ بجوار "موقد النار"، صامتا إذا زار البلدة شتاء.
كان لي "خال" يفعل ذلك، ويسكن في حي فقير بجوار السيد البدوي، ويكتب الأغاني الشعبية والدينية للفرق الشعبية، ومات في طنطا. وكان إن ذكّره أحد بسمالوط، كان يقول له "أكره حوائط بيوت سمالوط وأنا أنزل من محطة قطاراتها". لم يكن في "فلان" هذا من خالي أي شيء، ولا حتى الهيئة أو الرائحة أو الشكل. كان هادئا جدا ومنخفض الصوت، ولم يُحدِث أي مشكلة في البلد خلال سنواته الأولى، عكس خالي تماما الذي كان "ابن حظ ويمشي كريح ويبدّل المهن كما يبدّل صداريه وثيابه والمقاهي التي يجلس فيها".
كان "فلان" يدّخر كل مكتسباته لوحدته، حتى أفدنته القليلة تركها للورثة بلا محبّة وبلا ضغينة، وخرج من الدنيا متوازنا وبلا زواج. ولا أعرف كيف تصرّف الورثة في مكتبته التي ظل طوال أسفارة يجمعها مع التحف والأشرطة والسير من كل القرى التي كان يمشي إليها بعد عمله الذي كان يتقنه جدا، ولا يشاحن أي أحدٍ فيه. لأنه ببساطة لم يكن محتاجا لشيء، سوى المرح مع بعض أصدقاء قلةٍ انتقاهم بعناية. مات فلان من سنوات قليلة، قبل أن يجالسني "هذا الشخص"، في المقهي، ويقول لي: "كان يحبّ أن يزورنا ويعطي أمي العيدية، وإنْ لم يحضر يرسلها إليها في مظروف، لأنها كانت ابنة خاله الفقير وصاحب البنات. وكانت أمي حينما تذكرُه تدمع". ثم يكمل: "هو ليه بعض الناس الطيبة مالهاش حظ في الخلفة؟". ثم يدير حكاية الخلفة ومشكلاتها فجأة إلى جوابات "فلان" الغرامية التي كانت تأخذها ابنة المأذون الجميلة من "كرناف نخلتهم"، وتضع خلف "الكرنافة" خطابها هي، فنجد بعد ساعات "فلان"، وقد جلس دقيقتين تحت النخلة، ثم يسحب جوابها ويمشي إلى البيت، حتى ترك البلد، لأن المأذون أعطى البنت لابن عمّها الضابط الذي سافر إلى اليمن كما وعد أخته.
لم أكن في قصّتي أبدا أعرف حكاية حب "فلان". ولكني كنت أحسّ أن هناك "حريرا" في القصة يأتيني من هناك، كي يكشف لي "عذاب القلب"، حرير بعيد وغامض، كأول الدّمع الذي تحسّه ولا يأتي أبدا.