الكتابة التي تشبه عثرات حظك

15 سبتمبر 2022

كلاريس ليسبكتور وفرناندوا بيسوا ونجيب محفوظ وعماد أبو صالح وإرنستو ساباتو

+ الخط -

أكاد أقول إنني أشمّ من بعيد أي كتابة تتشابك مع روحي، وكأنّني كتبتُها، وكأنّها كتبتني، كتابة تعيشني وأعيشها، رغم بعد مسافة أصحابها عني، ورغم اختلاف المزاج، هل ثمّة شيءٌ في ذبذبات روح الكاتب، وكتاباته تجعلك تميل له دون غيره، ذبذبة تصل إلى روحك منه، ومن كلماته، ومن مظهره أيضا، تجعله قريبا من روحك؛ هل في الكتابة توافقات روحية تتم من دون أي علم بذلك.

رأيت الشاعر عماد أبو صالح، بطيبة خطواته الهادئة جداً، وصاحب الوجه المتجهم أحياناً، وحينما يبتسم يلقي بجهامة الوجه بعيداً عنه، وتظهر فيه ومن خلاله ابتسامة الطفل القروي الذي يحاول في القاهرة هادئاً بعيداً عن الصخب أن يكتب وحيداً من دون أن يضرّ أحداً، وكلّ رأسماله المبدّد هو محبة الشعر وحلمه به، وجلّ فرحه ومزاجه هي القراءة ومتعتها بعيداً عن التوجهات المؤسّسية وسدنتها وجوائزها واتصالاتها الليلية كيفما تقتضي المنفعة. عماد أبو صالح يمشي وحيداً وبعيداً عن ذلك كله "مهندساً خائفاً من العالم" ورحيماً على الكتابة، وقاسياً جداً على نفسه.

لم أكن أعرف من قبل الكاتبة كلاريس ليسبكتور، ولا عوالمها الميتافيزيقية، إلّا أنّني حينما قرأت مقولة تقول فيها: "يبدو أنّني مسكونة بجانب طفولي لن ينضج أبدا"، هل ثمّة طفولة في الكاتب صعب على العالم أن يخدشها فيه بكل قساواته، وإن خرج الكاتب، أي كاتب أو كاتبة، بهذا الجانب الطفولي، غير الناضج، وغير المخدوش، استطاع بعدها أن يحيا في العالم بذلك الكنز الذي حافظ عليه بداخله من غير أن يتبدّل، هذا الكنز المطمور في طفولة الكاتب والكاتبة، هل هو السحر الدائم له والإرث غير القابل للتقليد أو المسخ.

حافظ نجيب محفوظ على ذلك الموظّف المحترم داخله، موظف في الحكومة، وموظف صبور مع الكتابة في كامل احترامه، حتى أنّ المناصب التي كانت تنتظره تمسّحاً في قيمته التي اكتملت في الستين من عمره كان يرفضها في أدبٍ جم، مثلما رفض رئاسة "روز اليوسف" بعد الستين، وقال لهم: "شبابها أولى مني بها" كي يتفرّغ تماماً لاحترام الكتابة طوال عمره حتى بلغ التسعين، في "أحلام فترة النقاهة" والرجل كما هو يكتب ويقدّم شهادته "الإبداعية" على عالم عاش فيه موظفاً محترماً برتبة كاتب، يميل إلى حرافيش الوطن، من غير وصايةٍ منه على أحد، ومن غير طنطنة باختياره المقهى، وبساطة عيشه بلا تطرّف وبلا مزايدة، لا في قيمته الأدبية أبداً ولا في اختياراته الوطنية التي كان يعتز بها من دون تنازل، حتى مات، ما الذي يجعل للكاتب هذا الطعم وهذه الغواية؟

كان فرناندو بيسوا وكأنّه ذلك الزاهد البرتغالي الذي ترك بلاده، وتمنّى أن يجلس على آخر طرفٍ من أطراف رأس الرجاء الصالح. والغريب أنك تصدّقه وتجله، رغم أنه لم يفارق خيالاته المرضى ولا المقهى ولا عمله المتواضع في وكالة للشحن في البرتغال، موظف حسابات بسيطاً يملأ خزائنه بالكتب، وينتظر سفينة تأتي من هناك، كي تأخذ كلّ هذه الخزائن من الأوراق من خزينته وتحوّلها إلى كتب. والغريب أنّ ذلك حدث بعد عقود، وكأنّه كان ينتظر سفائن تأتي له من رأس الرجاء الصالح محمّلة بالذهب، والسفائن جاءت، لكنّه هو كان قد ترك المقهى إلى قبره.

ما الذي يجعلك تتشبث بكتابٍ لكاتب لا تعرفه، ولم تشرب معه الشاي في مقهى. ورغم ذلك تركن كتباً لأناس تراهم مراراً على الأرصفة وفي المقاهي ومعهم الأوراق والكتب، ويتعاركون في الندوات؟ هذا السرّ الجميل ما سرّه؟

سرّ يحببك في أرنستو ساباتو في رواية "النفق" وفي كلّ حواراته، حتى تقرأ له مقولة يقول فيها: "لكم تمنّيت أن أكون سمكري سيارات في حارة سد، ولا أكون كاتباً". ماذا يريد الكاتب من العالم وماذا يريد عماد أبو صالح من القاهرة، وماذا يريد بورخيس من المكتبة وعالمها وغموضها وماذا يريد نجيب محفوظ من المقهى وفتواته وحرافيشه وثرثرة النخبة في عوّامة في النيل في "ثرثرة فوق النيل"، وماذا يريد كافافيس من الإسكندرية ومن سفن البرابرة ومن التاريخ؟

يسجل الكاتب شهادة حزنه وأساه على العالم، ثم يترك العالم بعد ذلك للمقاولين والقتلة ويهرب بطفولة روحه، وهذا إن استطاع.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري