القنبلة نائمة
"أنت لا تفهم يا عزيزي... القنبلة صنعت لكي تنفجر". عبارة وردت على لسان الشرّير في فيلم "سرعة"، يردّ بها على شرطيّ يحاول إقناعه بإبطال مفعول القنبلة التي زرعها في حافلة ركّاب عمومية، محاولًا تحفيز الجانب الإنساني في شخصية الشرير بلا جدوى.
اختصرت تلك العبارة، في رأيي، فلسفة الشرّ كلّها، بدءًا بصانعه، وانتهاء بمنفّذه، مرورًا بمحرّكه الذي يسمى باللهجة الدارجة "محراك الشرّ". أما النجاة من شرّ القنبلة، في الفيلم بالطبع، فكان في مواصلة الحافلة الملغّمة مسيرها بسرعة تتجاوز 60 كيلومترًا في الساعة، وإلا فإن أدنى انخفاضٍ عن تلك السرعة كفيلٌ بانفجار القنبلة بركّابها.
خطرت في ذهني تلك العبارة وأحداث الفيلم، عندما قرأت خبر اكتشاف قنبلة بريطانية ضخمة تزن نحو نصف طنّ، من مخلّفات الحرب العالمية الثانية لم تنفجر بعد في مدينة ألمانية، قبل أسابيع، واستدعت إعلان ما يشبه حالة الطوارئ، وإجلاء نحو 13 ألف نسمة من سكان المنطقة المنكوبة بهذا الاكتشاف الرهيب. وتساءلت عن قيمة قنبلة "لم تنفجر" في أوانها، لكنّها أجّلت الفزع الكامن فيها إلى أزيد من سبعين عاما، وهل كان يمكن أن تظلّ مدفونةً إلى الأبد لولا "محراك الشرّ" الذي نبش وراءها وأخرجها من قبرها؛ ليستحضر فيها تاريخ أسوأ حربٍ عالميةٍ شهدها العالم، وأودت بحياة أزيد من 60 مليون قتيل في أربع سنوات فقط، وهل ثمّة ما يكفل ألا يتسبّب استخراج تلك القنبلة في إثارة ضغائن مماثلة لنظيرتها القديمة لدى أجيال جديدة لم تشهد أهوال الحرب الماضية، لكنها تبدو مهيأة للثأر؟
معضلة مثل هذه الألغام الدفينة أنها تستبطن انفجاراتٍ متعدّدة لا تقتصر على الانفجار الفيزيائي وحسب، ولا تقف عند حدود المعدن، بل ثمّة قنابل سياسية واجتماعية ودينية وطائفية مهولة كامنة في مقابر التاريخ، في وسع أي واحدةٍ منها أن تزعزع النسيج المجتمعي في حال شاء "محراك الشرّ" تفجيرها. وما أغزرهم في هذه الحقبة العربية تحديدًا، التي تلت الاحتلال الأميركي للعراق. ويكفي استعراض سريع لبعض القنوات الدينية شاهدًا على القنابل التي أخرجت من مقابرها لإثارة الفتن، وتدعيم حجج طائفةٍ ضدّ أخرى، وكلّ يدّعي أنه "الفرقة الناجية"، علمًا أن الغرق بات يهدّد الجميع، ولا نجاة لأحدٍ ما دام التعامل يتم بأسلوب القنبلة التي صُنعت لكي تنفجر.
الأخطر أن ثمّة صنّاعًا يفبركون القنابل من العدم، استنادًا إلى حوادث تاريخية عادية في وقتها، ولا تشكّل موادّ قابلة للانفجار، على غرار اجتماع "السقيفة" التشاوري، الذي يمكن أن يحدث في أي سقائف ديمقراطية، قديمًا وحديثًا؛ لكن أصحاب الفتن صنعوا منها قنبلةً تزن أزيد من 1400 طنّ، هو عمر الاجتماع نفسه، وحمّلوها بكلّ صنوف البارود المذهبي القابل للانفجار، الذي استدعى الفتك والتهجير، وخلخلة بنى مجتمعاتٍ كانت متماسكةً إلى وقتٍ قريب، كما حدث في مدن وأحياء عراقية انقسمت إلى ملل ونحل، ولم تعد تطيق طائفة الأخرى، ولربما يصل الأمر حدّ القطيعة الاجتماعية التامة، أحيانًا. والأمر نفسه انسحب على حوادث أخرى انتزعت من قبورها؛ لتجعلها حاضرةً كأنها وقعت اليوم، مع تحميل أتباع الملل مسؤولية الحادثة كأنهم سببها؛ لتبرير سائر ممارسات العنف الواقعة على الطرف الآخر، على غرار حوادث "الإفك"، و"التحكيم"، وقتل الحسين. ولا تخفى الأهداف السياسية وراء تفجير مثل هذه القنابل القديمة، أبسطها الاستئثار بالسلطة، بينما يتوخّى "محراكو الشرّ" الغامضون تحقيق أهداف أوسع، أقلّها إبقاء الأمة أسيرة تلك الثقوب السوداء في تاريخها.
هذا ما يحدث عندما تتوقف حافلة الحضارة عند تلك المقابر التي نسيها التاريخ؛ لأن التوقف يعني فتح الباب واسعاً أمام من يحرّكون الشر ويزرعون القنابل، ولا حلّ مجديًا لتجاوز تلك المناطق السوداء، غير مواصلة الحافلة طريقها .. ذلك ما قاله الفيلم، وهذا ما يقوله الواقع.