القمّة الطارئة فرصة عربية أخيرة

11 نوفمبر 2023
+ الخط -

... حتى قبل يومين من انعقاد القمة العربية الطارئة في الرياض المقرّرة اليوم السبت، الأنباء والتقارير عنها شحيحة، ولعلّ كثيرين في المنطقة وخارجها، وتحت وطأة الحرب الوحشية المتتالية فصولاً على غزّة، لم يستوقفهم أمر القمّة ولم يضعوه في دائرة الترقّب. ولم ترشح تصريحاتٌ تُذكر من أطراف القمّة بشأن هذه المناسبة، باستثناء ما يصدر عن البلد المضيف. ومع ذلك، من المنتظر أن يكون هذا الانعقاد في هذه الغضون الحدث السياسي الأهم في المنطقة، مقابل الحدث العسكري ممثلاً باندفاع آلة الحرب الإسرائيلية ضد سائر مظاهر الحياة في غزّة.

تواجه القمّة تحدّياً فعليا لكنها قادرة على التعامل معه، فالولايات المتحدة تشارك في هذه الحرب بالخبراء والمستشارين وبفرق مسلحة، وعبر جسر جوّي ينقل الأسلحة والمعدّات إلى تل أبيب، وعبر دعم مالي سخي. ومن جهة أخرى، يكتفي الطرفان المناوئان لأميركا، الصين وروسيا، بمواجهة دبلوماسية مع واشنطن في أروقة مجلس الأمن، وبينما يستعدّان للقاء قمّة يجمع رئيسي البلدين في غضون أسابيع، فلم يرشح موقف صيني يمنح أهمية خاصة للحرب على غزّة في اللقاء المزمع بين الرئيسين، شي جين بينغ وجو بايدن، فيما تعتصم عواصم أوروبية رئيسية بالوقوف إلى جانب واشنطن في تسويغ حرب تدميرية تزدري كل القواعد.

وتثور توقعات بأن يتم الإعلان عن هدنة أو توقف "إنساني" قصير الأمد، تزامناً مع انعقاد القمّة، لامتصاص الغضب وللتأثير على هذه المناسبة وتخفيض نوعية قراراتها وحرف بوصلتها، علما أن الطرف الإسرائيلي لا يراعي، في كثير أو قليل، الأطراف العربية، المطبّعة منها وغيرها.

لن يكون الافتراق التام عن واشنطن في مسألة الحرب على غزّة مستغرباً ولا مفاجئا، فثمّة نهج سياسي قائم عربياً على عدم الالتصاق بواشنطن

وخلال ذلك وبعد مضي خمسة أسابيع على المجازر اليومية من الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط ضد قطاع جغرافي ضيّق ومحاصر، فإن الحاجة الموضوعية لدور عربي متماسك وفاعل تتزايد، من أجل ترجيح كفّة المناهضين للحرب، وإثبات وجود كتلة عربية دينامية ذات وزن وشأن في التأثير على المعادلات السياسية والاستراتيجية في منطقتنا، وفي ما يتعدّى المنطقة. وقد نشط وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، بثلاث جولات إلى المنطقة لتبليغ الدول التي زارها بموقف واشنطن الرافض وقف إطلاق النار وتبرير الحرب بالدفاع المزعوم عن النفس، وهي مقولة جوفاء لا تنطبق على الدول القائمة بالاحتلال، وإلا لكانت روسيا تدافع عن نفسها في حربها على أوكرانيا، ولكان من حقّ اللصوص المسلحين الذين يسطون على البنوك والقصور أن يدافعوا عن أنفسهم بمهاجمة رجال الشرطة بالسلاح.

ولا مفرّ إزاء ذلك من مواجهة سياسية مع واشنطن في القمّة، علما أن أطرافا عربية عدة من بينها السعودية اتخذت في الأعوام القليلة الماضية سياساتٍ تفترق عن واشنطن في مجال الطاقة، وفي مجال بناء القدرات الدفاعية وغيرها من المجالات. وعليه، لن يكون الافتراق التام عن واشنطن في مسألة الحرب على غزّة مستغرباً ولا مفاجئا، فثمّة نهج سياسي قائم عربياً على عدم الالتصاق بواشنطن. وثمّة الآن أصواتٌ أوروبية تجاهر برفض موقف واشنطن، كما هو الحال في بلجيكا التي دعت فيها نائبة رئيس الوزراء، بيترا دي سوتر، إلى وضع عقوبات على إسرائيل (صدرت دعوة مماثلة من عُمان)، ومنع ساسة الحرب وجنرالاتها في تل أبيب من دخول الاتحاد الأوروبي. وهناك أصواتٌ قوية مماثلة، تصدر عن مسؤولين نرويجيين وإسبان، فضلاً عن مواقف أمين عام الأمم المتحدة والهيئات الأممية التي تستهول هذه الحرب الوحشية المصمّمة للفتك بالمدنيين وتدمير المستشفيات ودور العبادة مع قطع المياه والكهرباء، وهو سلوكٌ مُشين، لم تلجأ إليه الدول في صراعاتها المسلّحة منذ الحرب العالمية الثانية.

من الأهمية بمكان تحميل الولايات المتحدة وإسرائيل المسؤولية القانونية والأخلاقية لإزهاق أرواح آلاف الأطفال والنساء، والتصريح أن هذه الحرب سوف تترك ذيولاً سلبية على العلاقات العربية الأميركية. أما جنرالات القتل في تل أبيب، فينبغي محاسبتهم دوليا، حتى لا تمرّ فظائعهم بغير عقاب، وبداهةً عدم السماح لهم بدخول أي بلد عربي. وكي لا تتكرّر مثل هذه الحرب التي تعكس انحطاطاً في أخلاقيات الحروب، والتي تمثّل تطويراً حرفياً وبأسلحة فتاكة للأنشطة الإرهابية، باستهدافها المتعمّد المدنيين والحياة المدنية لتحقيق غاياتٍ سياسيةٍ وعسكرية.

وضع غزّة بعد الحرب منوط، أولاً، بوقف إطلاق النار، ثم بتفاهمات فلسطينية وعربية، وليس بالطرف المعتدي، ولا بأي طرف من خارج المنطقة

وبينما اتّجه العالم العربي نحو السلام مع الدولة العبرية، إلا أن هذه الدولة أبت إلا أن تجدّد الكشف عن نزعتها المزمنة في الاستئصال والإبادة والتطهير العرقي بحقّ شعب فلسطين، الضحية الأولى والكبرى في الصراع، وهو ما يوجب رؤية إسرائيل أخرى تجنح إلى السلام بالفعل لا القول، وتحشد جمهورها حول الحاجة إلى سلام جدّي وموضوعي، يقوم ابتداءً على الاعتراف بحقّ شعب فلسطين في الحرية والأمن والاستقلال على أرضه المحتلة منذ عام 1967، مع الامتناع عن تهديد الدول الأخرى، سواء بالتسبّب بموجات تهجير قسري جديدة، أو التهديدات السافرة، من قبيل قول أحد جنرالات الحرب، قبل أيام، إنهم قادرون على الوصول إلى أي مكان في الشرق الأوسط.

وبموازاة ذلك، القمّة مدعوّة للرد على الأطروحة الأميركية القائلة بضرورة وضع ترتيباتٍ لقطاع غزّة بعد الحرب، والإيحاء بأن وقف إطلاق النار مرهون، في جانب رئيس منه، بهذه المسألة، وقد اتّضح أن زيارة رئيس المخابرات المركزية الأميركية، وليام بيرنز، المنطقة، كانت لهذا الغرض، إذ يقرّر مصير غزّة أبناء هذه القطاع أولاً، ثم الجانب الفلسطيني، ممثلاً بسائر مكوناته، ثم بالجانب العربي مُمثلاً على الخصوص بمصر والسعودية والأردن. وبهذا، وضع غزّة ما بعد الحرب منوط، أولاً، بوقف إطلاق النار، ثم بتفاهمات فلسطينية وعربية، وليس بالطرف المعتدي، ولا بأي طرف من خارج المنطقة.

على القمّة العربية إثبات الجدّية باتخاذ إجراءات ملموسة بخصوص العلاقة مع واشنطن والموقف من تل أبيب، فالحرب لا تتوقف بالكلام والكلمات فقط، بل بما يتناسب مع حجم الخطورة التي تمثلها هذه الحرب التي تشمل الضفة الغربية المحتلة أيضا. ولعل انعقاد القمّة في هذا التوقيت يمثل فرصة أخيرة لتصحيح المعادلات ووقف الانزياح الإسرائيلي إلى التوسّع والهيمنة، ومن أجل لجم أي تهديدٍ من أي مصدر آخر ضد المنطقة ودولها وشعوبها، ولتصليب المواقف الإقليمية والدولية الداعية إلى وقف الحرب والشروع في حل سياسي فعلي للصراع، وسوى ذلك، فإن تشاؤم الرأي العربي العام سوف يزداد شدّة وحدّة.