القفز فوق السياسة في مصر
في السنوات العشر الماضية، تأسّست في مصر ديكتاتورية نجحت في سحق خصومها الذين هم من خارجها، كما نجحت في سحق منافسيها الذين هم من داخلها. تقف وحدها في الميدان، كما لو كانت في سباق خيول يعدو فيه حصان واحد، لكنّ هذه الديكتاتورية، رغم هذا النجاح قلقة وغير مطمئنّة، يدها على قلبها زائغة البصر فوق متن مركبٍ تعصف به الأمواجُ في بحار إقليمية ودولية مضطربة.
في المقابل، فقدت كلُّ قوى المعارضة (مدنيةً ودينيةً) مواضع أقدامها في الميدان، تحالفت كلّها من دون استثناء مع العسكريين في يناير/ كانون الثاني 2011، ثمّ تحالف كلّها من دون استثناء مع العسكريين بعضهم ضدّ بعض بعد ذلك. في البدء تحالف العسكريون مع الجميع، أي مع ثورة 25 يناير (2011)، حتّى سقط مشروع توريث الرئيس الأسبق حسني مبارك الحكم إلى نجله، وهو مشروع مضادّ للوتد الذي انتصبت عليه خيمة الحكم في مصر منذ ثورة 23 يوليو (1952). وهذا الوتد هو أنّ السيادة للجيش، ثمّ الرئيس من الجيش، ثمّ للمدنيين نصيب معلوم فيما وراء ذلك. جاءت غضبة "25 يناير" فرصةً مثاليةً لتعيد وضع الأمور في نصابها، نزل الجيش من عصر جمعة الغضب (28 يناير/ كانون الثاني 2011) يحمي جماهير الثائرين في كلّ أنحاء القطر، ثم أُكرِه (أو أُقنِع) الرئيس الأسبق (تحت زخم الغضب الشعبي) على التخلّي عن الحكم، لتنتهي صفحتُه، ومعه نجله ورجاله وحقبته، ثمّ بعد ذلك تحالف الجيش مع أقوى تنظيم شعبي وجماهيري، وهو قوى الإسلام السياسي، حتّى التخلّص من القوى الثورية المدنية، وفي غالبها كانت عناصرَ شبابية حديثة الولوج إلى عالم السياسة، دخلت السياسة من نوافذ الاحتجاج التي أفضت إلى ثورة مفتّحة الأبواب انفتاح السموات على الأرض.
كانت الديمقراطية في الهوامش عند من يصوّرون الصراع معركةً بين الشرعية والانقلاب، وعند من يُصوّرونه معركةً على هُويَّة مصر الوطنية
وبالفعل، نجح تحالف العسكريين مع الإسلاميين في تهبيط القوى الثورية، ثم تخفيض فاعليتها إلى الحدود الدنيا، ثم أجرى العسكريون انتخابات برلمانية (مجلس نواب ثمّ مجلس شورى)، وكذلك انتخابات رئاسية، فاز في جميعها الإسلاميون، حتّى إذا تمّ ذلك بنجاح، تحالف العسكريون مع المدنيين وبعض القوى الإسلامية ضدّ طبقة الحكم الجديدة التي عمادها الإخوان ومن معهم، وقد نجحت المهمّة في 30 يونيو/ حزيران 2013، ومن بعدها بدأ العسكريون بالتخلّص من حلفائهم المدنيين، ثمّ التخلّص من حلفائهم العسكريين السابقين، ثم استوت على سوقها طبقة حكم جديدة تنتسب إلى سلالة طبقات الحكم التي أثمرتها نظرية السيادة للجيش والرؤساء من الجيش، ولكنّها تظل ابنة زمانها وعصرها، رغم ذلك الانتساب التاريخي، ابنة موجة جديدة من الديكتاتورية، سواء في الإقليم أو العالم. هي ابنة الديكتاتورية بوصفها ضرورةً ذات معنيين. المعنى الأول، هو الحفاظ على الدولة جداراً أولاً وأخيراً للحفاظ على الهُويَّة الوطنية والأمن القومي. المعنى الآخر، هو الحفاظ على الأمر الواقع بوصفه الحافظ لامتيازات ولمصالح ولمكتسبات طبقات لها نفوذ ووجاهة في الداخل، ولها صلات وتبادل منافع ومصالح مع الخارج. الديكتاتورية الحاكمة كان لها منطق متماسك (ولو نظرياً) هو موجز في الحفاظ على الدولة وتثبيتها في إقليم مضطرب، لم يبدأ اضطرابه مع تساقط الأنظمة الحاكمة في ثورات الربيع العربي فقط، لكن بدأ أبكر من ذلك بسقوط بغداد تحت الغزو الأميركي 2003. قوى المعارضة (مدنيةً ودينيةً) بطبيعتها مُشتَّتة منقسمة، لم تُفكّر في تجاوز التشتّت والانقسام، بل احتمت به وقايةً ضدّ التصنيف مع الإسلام السياسي في سلّة واحدة، وما قد يتبع ذلك من تصنيف بالإرهاب، لم تُفكّر قوى المعارضة في الالتقاء عند فكرة واحدة، فكان طبيعياً أن تضمحلّ بالتدريج، يستوي في ذلك أقواها مع أضعفها. كانت هناك بين الحين والآخر مبادرات شجاعة فقط، من أفراد تُحرّكهم الوطنية الأخلاقية، وعلى الفور كانت الديكتاتورية تستضيف هؤلاء الأفراد في سجونها، طال الوقت بهم في أقبيتها أو قصر، ثم يخرجون إلى الصمت، ومن عاد منهم فإنّه يعود إلى السجن... وهكذا.
تحول الحَراك السياسي المتدفّق قبل 25 يناير (2011) في السنوات العشر اللاحقة نقيضاً تامّاً، أي تحوّل حَراكاً سالباً منسحباً مرتدّاً متراجعاً، ثمّ مضمحلاً في السنوات العشر التي أعقبت قيام دولة 30 يونيو (2013). تاريخ صاعد في عشر سنوات يعقبه تاريخ ساقط في العشر التالية. خلاصة السنوات العشر الأولى من تاريخ الديكتاتورية الراهنة انتصارٌ كاسحٌ، لكن بثمنٍ فادحٍ، فقد أرهقت الديكتاتورية نفسها، وأرهقت الدولة ذاتها، وأرهقت المجتمع قهراً ثمّ فقراً، ثمّ قضت قضاءً حاسماً على المجتمع السياسي، لا يوجد في مصر في السنوات الماضية مجتمع سياسي، بما في ذلك البرلمان بمجلسيه النواب والشيوخ، وكذلك الأحزاب. ذلك كلّه فقد الصفة السياسية، بما أنّ السياسة مبادرةٌ حرّةٌ تعبّر عن مصلحةٍ شعبيةٍ، وبعد أن فقد الطابع السياسي تحوّلت الأحزاب والبرلمان ملحقات بالجهازين الأمني والبيروقراطي في الدولة المصرية، مُجرَّد أدوات في يد الإدارة، وليست إرادةً سياسيةً مستقلةً أو فاعلةً.
لماذا حدث ما حدث، لماذا انتصرت الديكتاتورية ورغم ذلك لا يضمن نصرها لها البقاء المطمئن، ولا يفي لها بأفق مفتوح على المستقل؟ لماذا يبقى وجهها مصلوباً إلى الحائط، وليس أمامها من خيارٍ غير استيلاد موجةٍ ديكتاتوريةٍ جديدة من موجةٍ قديمةٍ، بحيث تكون السنوات العشر المُقبِلة مُجرَّد تطوير لديكتاتورية السنوات العشر المُدْبِرة؟ لماذا الارتهان للديكتاتورية خيار وحيد؟ وفي المقابل، لماذا تظلّ قوى المعارضة (مدنيةً ودينيةً) تعيد إنتاج الخصلتَين السالبتَين؛ خصلة التشرذم ثمّ خصلة الإفلاس الفكري، ومن ثمّ تعيد إنتاج عجزها المزمن عن تقديم طبقة قيادية جديدة تحمل معها رؤىً وأفكاراً جديدة، وعلى هذا تبقى قوى المعارضة (مع افتراض شرف المقاصد ونزاهة الأغراض) تدور في أفلاك الغضب العاجز والسخط المريض والاحتجاج القعيد؟
الجواب، ما سبق كلّه من ديكتاتورية مُسيطِرة لكن غير مطمئنّة للمستقبل، ومن معارضة تحوّلت من صعود مثير في العشر سنوات التي سبقت 25 يناير (2011) اضمحلالاً حزيناً في العشر الأولى بعد 30 يونيو (2013)، ذلك كلّه مردّه إلى أسباب عدّة؛ أوّلها أنّ الديمقراطية كانت في هامش الصراع، لم تكن في قلب المعركة، كانت في الهوامش عند من يصوّرون الصراع معركةً بين الشرعية والانقلاب، ثم كانت في الهوامش عند من يُصوّرون الصراع معركةً على هُويَّة مصر الوطنية على النمط الأوروبي الحديث، الذي وضع لبناته الأولى محمد علي باشا في النصف الأول من القرن العشرين، أي دولة علمانية الركائز، لكن من دون صدام مع الدين. الدين لا يحكم لكن محلّ احتفاء وتعظيم، لم يخض أحدٌ معركةً صريحةً من أجل الديمقراطية، ولا حتّى مُجرَّد شعار. فقدت الديمقراطية مكانها لمصلحة "الشرعيّة" عند قوى الإسلام السياسي، ثمّ فقدت مكانها لمصلحة "الهُويَّة" الحديثة عند خصومهم من المدنيين، حتّى الكنيسة والجيش. الصراع الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي جرت فصوله من بعد 30 يونيو (2013) لم يكن فيه ديمقراطية ولا ديمقراطيون، كان الجميع على استعداد تلقائي وغريزي للتضحية بالديمقراطية أو تأجيلها إلى أجل غير معلوم.
السبب الثاني أنّ الجميع، في حومة الوغى وحلبة المصارعة، قفز فوق السياسة وتجاهلها، فالجيش، مثل كلّ جيش، حكم بالضبط والربط، أي بقبضة من حديد ونار، وهو ذاته كان قدْ حذّر من ذلك بوضوح شديد، فعندما ذهبت قوى مدنية تطالب الجيش بالتدخّل في الصراع السياسي، أعلن وزير الدفاع، حينذاك ورئيس الجمهورية بعد ذاك، وعلى الملأ، أنّ الجيوش نارٌ لا يُلعب معها ولا بها، وأنّ الجيش إذا تدخّل فلن يخرج قبل عدّة عقود من الزمن.
جرّبت مصر خيارَ القفز فوق السياسة، لكن ليس لها من مخرج في السنوات العشر المُقبلة غير خيار العودة إلى السياسة
ديكتاتورية الحكم الجديد كانت مقبولةً من معظم القوى المدنية في أوّل الأمر على ظنّ أن ذلك إجراء مُؤقَّت تقتضيه ضرورة المواجهة مع قوى الإسلام السياسي، ثم خابت ظنون المدنيين، وتحوّلت الديكتاتورية من إجراءات مُؤقَّتة إلى ركائزَ سلطويةٍ دائمةٍ، بل مزمنةٍ. لم يكن الجيش وحده من قفز فوق السياسة، فالقوى كلّها، المفترض أنّها سياسية باتت رهينة فكرة الثورة، وأنّ الميادين سوف تمتلئ من جديد بملايين الثائرين، وأنّ الديكتاتورية سوف تسقط كما سقط الذين من قبلها. هذه القوى السياسة باتت رهينة أحلام يقظة غير مطابقة للواقع تملأ خيالاتها، وتظنّ أنّها سوف تصحو من نومها ثم تفرك أعينها لترى الثورة طوفاناً يغرق فيه النظام، ثمّ يطفو جثمانه عبرةً للناظرين. الذي حدث (بعد عشر سنوات) هو العكس، فقد تمكّن النظام من خنق أنفاس المعارضة حتّى زهقت منها الروح، ولم يبق غير جثمان هامد فاقد للأنفاس والحراك معاً.
أخيراً، لا بديل من العودة إلى السياسة، فالديكتاتورية لا تستطيع أن تستمرّ إلى الأبد ديكتاتوريةً، فمن طبيعة الأشياء أن ترتخي ثمّ تنفكّ قبضة الحديد والنار في أجل قريب أو بعيد، ثمّ الأوضاع التي ترتّبت على الاستدانة الأجنبية غير المسبوقة (تعيد إلى الأذهان استدانة الخديوي إسماعيل) من شأنها إضعاف مناعة البلد وحصانتها الذاتية في وجه مجتمع الدائنين، وأيّ ثورة شعبية في بلد فاقد للمناعة الذاتية لن تكون محمودة العواقب على سلامة البلاد. ليس شرطاً أن تنتهي الثورة مستقبلاً بما انتهت إليه الثورة ضدّ الخديوية من احتلال بريطاني عسكري مباشر، لكن سوف تثير هلع مجتمع الدائنين أصحاب المصالح الاقتصادية والمالية، وربّما السياسية، في مصر، ومن ثمّ أصحاب المصالح في استقرارها وتماسكها وسلامها الداخلي.
لقد جرّبت مصر في السنوات العشر الماضية خيارَ القفز فوق السياسة، لكن، وبالمقدار ذاته، ليس لها من مخرج في السنوات العشر المُقبلة غير خيار العودة إلى السياسة، بما هي تفاهمات وتوافقات لحسن إدارة البلاد من دون الاصطدام بدواعي الثورة، ولا بدوافع الانقلاب.