القارئ بديلاً للناقد الأدبي؟
الحقيقة أني لا أفكّر بالقارئ كثيراً، ولستُ ممن يهجسون به أو يسعون وراءه، إذ يستعصي عليّ تصوّر انطباعاته الأولى مثلاً لدى رؤيته الغلاف، تقليبه الصفحات عشوائياً، أو قراءة ما كُتب على الغلاف الخلفي. وإذ هو عائدٌ إلى مطرحه وفي صحبته روايتي، أراني أتساءل إن كان ما يزال متذكّراً أني في جعبته، أو إن كان مستعدّاً في نفسِه لي، وما مدى حدّة رغبته باكتشافي. وإذ هو قد بلغ منزله، أراني أتساءل إن كان سيضعني على الرفّ، أو فوق ثلة كتبٍ أخرى، أو هل أنه سيباشر القراءة ملهوفاً، لا يقوى على تسويفٍ أو انتظار. وإن اطمأننتُ إلى كونه قارئاً جادّاً، ألن أحار في وضعه داخل إطارٍ ما، فهل هو ليل أم نهار، وهل هو جالسٌ أم مضطجع، متحمّس أم لا مبالٍ، مركّز أم نافد الصبر، مفتوح المسام أم أصمّ؟ أنا أيضاً لست أحبّ تخيّله يقطع قراءته ليقوم بأي عملٍ تافهٍ مثل الإجابة على اتصالٍ هاتفي يمكن تأجيله في معظم الأحيان إن لم يكن خبراً عظيماً يتعلّق بموتٍ أو حياة، أو دخول الحمّام، أو تناول الطعام مع إصدار أصواتٍ مزعجةٍ كالبلع واللعق والمضغ، فيما أنامله الزفرة تترك بصماتها على الورق النشّاف.
والحال أني لا أميل إلى التفكير في القارئ أو تخيّله ينسلّ دخيلاً بيني وبين صفحاتي الملأى بساعات وحدتي وعزلتي، تلك التي أراكمها تباعاً بما يتبدّى لي في كل مرّة، معجزة تسقط عليّ من السماء، ممسكةً بيدي، بقلمي، مصوّبة سهامي إلى البقعة البيضاء. الأحرى أني، وفي أيامنا هذه تحديداً، بتُّ لا آمن له، بل أجده عشوائياً، مريباً، غير كفؤ، وأحياناً مدّعياً، مستبدّاً، وعلى درجةٍ من التكلّف والتسرّع والإفراط. والحقيقة أن من أعنيهم من القرّاء بكلامي هذا هم أولئك الذين يزعمون معرفةً ومراساً أكثر من سواهم، أصحاب العلامات والنجوم والتقييمات، ممن يدّعون لأنفسهم سلطةً مستجدّةً منحتهم إياها قوانينُ السوق، وقد حوّلت الكتابَ سلعةً تُشرى وتباع. هؤلاء الذين يُصدرون الأحكام ويضعون النقاط ويقيّمون الأعمال على "قنواتهم" اليوتيوبية، ومواقعهم على الشبكة العنكبوتية ومدوّناتهم التي تملأ الفضاء الافتراضي، وفي جعبتهم قراءاتٌ عشوائيةٌ قليلة، وبضع مصطلحاتٍ اصطادوها من هنا وهناك، ثقةٌ مبالغة في الذات، ورعونة في التصويب.
هؤلاء القرّاء "المؤثّرون"، (إنفلوينسرز)، كما درجت تسميتُهم، الذين باتوا في مرمى دور نشر عديدة وعدد من الكتّاب، يجهلون ربما سوء تأثيرهم في غياب حركة نقد أدبي جاد يُفترض أن يضطلع بقراءة النصوص والتعريف بها، كشفها واكتشافها وإظهار خصوصيّاتها، لكي يكتمل قطبا الإبداع ويتفاعلا، منتجين حراكاً أدبياً جديراً بهذا الاسم. الذنب لا يقع على عاتق القارئ بالطبع، وسيكون معقّداً جداً هنا تناول الأسباب، لكن لا بأس من الإشارة إلى بعض ذيول هذا الغياب وعواقبه ونشأة أجيالٍ كاملةٍ من قرّاء يفتقدون بوصلة حقيقية في عصر اختلطت فيه معايير الجودة بمعايير الانتشار.
ثمّة من سيقول إنّ القارئ حرّ وله أذواقه، ومن حقه التعبير عما يراه جديراً بالإعجاب أو بالذمّ، وثمّة من سيضيف أن القارئ هو الركن الثالث الذي به يكتمل مثلّثٌ زاويتاه الكاتب والكتاب. هذا صحيح. لكنّ من واجب القارئ أن يتواضع، مدركاً أنه ليس ناقداً أدبياً، وليس حرّاً في ادّعاء علمٍ لا يملكه بمجرّد أنه، بخلاف غيره، يقرأ! وقد يكون مفيداً الاختتام بقول الكاتب والناقد الأدبي موريس بلانشو: "أكثر ما يتهدّد القراءة هو: واقع القارئ، شخصيته، قلة تواضعه، إصراره على البقاء هو نفسه في مواجهة ما يقرأ، ومشيئته في أن يكون شخصاً يجيد القراءة بشكل عام".