"الفيدرالية الإسرائيلية" ومصير القضية الفلسطينية
يبدو أن وحدة المجتمع الإسرائيلي أصبحت شيئا من الماضي، إذ يعتقد إسرائيليون كثيرون أن التعدّدية الثقافية والتعايش المشترك بين أصحاب الأيديولوجيات المختلفة قد فشلا، وأن المجتمع الإسرائيلي على شفا الانهيار، وأن الجهود التي بذلت وما زالت لإيجاد قومية إسرائيلية واحدة على أساس علماني لم يعد مكتوبا لها النجاح، وبالتالي، لا مفرّ من إيجاد طريق جديد في ظل عدم تجانس مكوّنات المجتمع الإسرائيلي.
ويقسم الإسرائيليون المجتمع لخمس مجموعات رئيسة (العرب، الشرقيون التقليديون، المتديّنون القوميون، الحريديم، العلمانيون). ويعدّ العرب الأكثر اختلافا عن غيرهم بحكم الدين وهوية الدولة اليهودية. وبهذا المعنى، هم أقلية تعاني دائما من عدم المساواة. أما الشرقيون التقليديون، فأكثرهم ينظر سلبا إلى المؤثرات الخارجية، ويعتبر أن التقليد والطائفة هما اللذان يوفّران لهم الحماية، فيرفض أغلبهم الاندماج، ولا يتقبّل قيم الليبرالية، أو النمط العلماني.
وبالنسبة للمتديّنين القوميين، أو التيار المحافظ في الصهيونية الدينية (الحريدي القومي)، فإن العلمانيين يعتبرونهم الأكثر خطورة في المجتمع، بسبب رغبتهم الدائمة في ترجمة إحساسهم بالتفوّق على الآخرين إلى أفعال. والحريديم هم الأكثر تحدّيا للسلطة السياسية. ولهذا، التزامهم بأحكام الشريعة يفوق التزامهم بقوانين الدولة، وهم مستقلّون تعليميا، ولهم أسلوب حياة وعادات تختلف عن غيرهم، اجتماعيا وثقافيا. وهم أكثر من يستغلّ الدولة وميزانيتها لمصالحهم الخاصة، بتضخيم الخدمات الدينية، ودعم تعليمهم الذي لا تشرف الدولة عليه، ومنح بدلات وحسومات في السكن والضرائب للحريديم. أما العلمانيون، فيعتبرون أنفسهم العامل الجاذب لإسرائيليين كثيرين، وأنهم الأفضل في العلم والثقافة والفن والأدب.. إضافة إلى اعتقادهم بتميّزهم في المبادئ وقيم المساواة والحرية. لكنهم يخشون على هذه المكتسبات بسبب اندفاع المجتمع نحو التديّن في العقد الأخير. ورغم منطقيته، يعكس هذا التقسيم الرؤية العلمانية للمجموعات، ويضع العلمانيين فوق الجميع، في تحيّز واضح تجاه الآخرين.
تؤكّد هذه الحالة من تضخيم بعض المجموعات ذاتها أن الهوّة الاجتماعية هناك وصلت إلى مرحلة خطيرة، جعلت إسرائيليين كثيرين مقتنعين باستحالة الحياة المشتركة، وضرورة وجود حلّ ثوري يتيح للجميع التمتّع بالحرية التي يريدها من دون التضييق على الآخرين، وذلك لن يتم، من وجهة نظر بعضهم، إلا بتحويل إسرائيل إلى فيدرالية بتقسيمها إلى محافظاتٍ فيدرالية على أساس هوية مواطنيها، علمانية أم دينية، أم حريدية، وهو الحلّ الوحيد الذي بإمكانه إنقاذ إسرائيل من الانهيار. ويقول هؤلاء إن أول طرح لهذا الحل الثوري جاء ضمنا على لسان نتنياهو في فترة رئاسته الثانية للحكومة (2009 – 2013)، حينما اقترح تقسيم مدينة بيت شيمش لاثنتين، علمانية وحريدية، لتلافي المواجهات العنيفة التي كانت المدينة تشهدها بين الفريقين، على خلفية رغبة الحريديم بتغيير نمط المدينة، ومحاولاتهم فرض الفصل بين الرجال والنساء في الشارع والمواصلات العامة.
الجهود التي بذلت وما زالت لإيجاد قومية إسرائيلية واحدة على أساس علماني لم يعد مكتوبا لها النجاح
كان وزير الداخلية حينها رئيس حزب شاس إيلي يشاي، الذي رفض تقسيم المدينة، وكان تبريره صادما وواضحا "إن وجود مدينة حريدية يعني أنها ستكون بلا دخل، وبلا ضرائب، وبلا صناعة"، ما يعني صعوبة إقامة مدينة حريدية في إسرائيل بدون علمانيين يتحمّلون الفاتورة. ولهذا أصرّ على استمرار الحياة المشتركة في المدينة رغم الاستقطاب الشديد والكره المتبادل نتيجة شعور العلمانيين بأنهم يتحمّلون فاتورة دعم التعليم الحريدي، وبسبب الفجوات الثقافية التي تضر نمط الحياة العلماني.
ومع تصاعد العداء بين اليمين واليسار، وتفاقمه الحالي بين الحكومة والمعارضة بسبب الثورة القضائية تدهورت قيم التعايش المشترك أكثر، وتعمّقت الفجوات بين فئات المجتمع، وتجذر إحساس الفشل في إنتاج مشروع هوية إسرائيلية واحدة، وأدرك الإسرائيليون أن صراعهم مع العرب وحده هو الذي أبقى على فكرة الأمة الواحدة. وينتج هذا التمايز الكبير بين المجموعات الخمس توترا كبيرا، وهو يفسّر اختيار مدخل القيم، وليس العرق، للفصل بين هذه المجموعات. كذلك فإن اشتمال اليمين على علمانيين وتقليديين ومتدينين وحريديم لا يجعله جماعة بذاتها.
ويؤمن مؤيدو فكرة الفيدرالية بأن انصهار الجميع في بوتقة واحدة أفضل من ناحية المبدأ، لكنه لم يعد ممكنا، ويعرقل فرص معالجة المجتمع الإسرائيلي. ولهذا يطرحون تعزيز استقلال كل مجموعة، على الأقل في مجالي التعليم والثقافة، بحيث تخصّص كل إدارة فيدرالية الضرائب التي تجمعها من أجل الأهداف التي حددتها.
يرى الإسرائيليون أن التاريخ الإسرائيلي القديم شهد انقساما مماثلا بانقسام مملكة داود إلى مملكتي يهوذا والسامرة، نتيجة ظروف مشابهة وتوترات سياسية أدّت إلى الانفصال، ودمار المملكتين
ومنذ العام الماضي، تصاعدت أصوات دعاة للفيدرالية؛ وفي مارس/ آذار الماضي، صدر كتاب "مخرج طوارئ؛ من القبيلة إلى الفيدرالية، الطريق لتعافي المجتمع الإسرائيلي"، للباحث في العلوم السياسية ساجي الباز، يدعو فيه إلى تحوّل إسرائيل إلى دولة فيدرالية لتحقيق متناقضيْن فشلت فيهما، هما التعايش على أساس احترام الاختلاف الثقافي، وأن ينعم كل فريقٍ بحياة مستقلة وفق أفكاره وعاداته. ويقول الباز إن المجتمع الإسرائيلي كان، عند تأسيس الدولة، ممزّقا للغاية، ولم يوحّده سوى الصراع العربي الإسرائيلي. لكن هذا الصراع الخارجي لا يمكنه الحفاظ على الوحدة الاجتماعية من دون قيمٍ مشتركة، في ظل عوامل كثيرة تدفع نحو الانقسام. ويعتقد العلمانيون الإسرائيليون أن فشل الوحدة حدثَ لرفض بعض المجموعات الاندماج في المشروع العلماني الذي نشأت عليه الدولة في ظل الحكومات التي قادها اليسار. وطبقا للباز، كانت الدولة الإسرائيلية، رغم إتاحتها التنوع الثقافي حينما كانت تحت قيادة حزب المباي، أكثر اهتماما بتنفيذ سياسة الانصهار عبر منظومة قيم سياسية واجتماعية علمانية، للتخلص من كل العادات والتقاليد القبلية. وهكذا نشأ الصراع على تشكيل هوية الدولة بين مؤيدي الهوية الواحدة، وهم الطليعة الاشتراكية ذات الأصل الغربي العلماني، مقابل مجموعاتٍ عربية، وشرقية، ومتديّنين دفعوا باتجاه الاختلاف وتعدّد الثقافات. ويقول الباز إن إسرائيل واجهت أزماتٍ مركزية عدة بعد عام 1967، أهمّها أنها لم تعد حاملة للهوية، وأصبحت عند كثيرين مجرد أداة لا تعبر عن التماسك الاجتماعي، وتحولت تدريجيا من دولة قومية إلى دولة جماعات قبلية، وأصبحت الغلبة للهويات الخاصة. وهكذا فشل صهر الجميع معا، ونتجت حالة عداء وترقب وظهور أربع ثنائيات متصارعة (اليهود والعرب، والغربيون والشرقيون، والمتدينون والعلمانيون، واليمين واليسار).
ويرى الإسرائيليون أن التاريخ الإسرائيلي القديم شهد انقساما مماثلا بانقسام مملكة داود إلى مملكتي يهوذا والسامرة، نتيجة ظروف مشابهة وتوترات سياسية أدّت، في النهاية، إلى الانفصال، ودمار المملكتين. وإذا كان واقع اليوم يذكّر بالوضع القديم، فإن الفارق أن المختلفين اليوم متداخلون جغرافيا، وهو ما يصعّب انقسام الدولة، لكنه لا يمنع انهيارها ... ومن هنا، تصبح الفيدرالية الحل الأمثل للحفاظ على الدولة والمجتمع.
ويؤكد أحد مسؤولي "حركة الفيدرالية" التي تأسّست عام 2022، أرييه هاس، والذي خدم في مناصب رفيعة في الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية، أن الدولة، إلى جانب فشلها في صهر الجميع في كيان قومي واحد، فشلت كذلك في التعامل مع المشكلات الدائمة، والمرهقة للدولة والمواطن، كأزمة السكن، وغلاء المعيشة، والتكدّس في الفصول المدرسية، وازدحام الطرق، وتراجع الخدمات في المدن ذات الأغلبية الحريدية، وزيادة معدّلات الجريمة والعنف في المجتمع العربي، ونقص أعداد الأطباء، وأخيرا ما حدث نتيجة ما يسمّى الإصلاح القضائي، وهذا كله يحتاج إلى حلّ جذري عبر تقسيم السلطة التنفيذية إلى 25 أو 30 مقاطعة فيدرالية (كانتونات).
يؤمن مؤيدو فكرة الفيدرالية بأن انصهار الجميع في بوتقة واحدة أفضل من ناحية المبدأ، لكنه لم يعد ممكنا، ويعرقل فرص معالجة المجتمع الإسرائيلي
حين ننظر إلى تأثير التصوّر الفيدرالي على القضية الفلسطينية نجده سلبيا تماما، ويظهر ذلك عند دعاة الفيدرالية كافة، وقد كتب أحد منظّريها عمانوئيل شاحاف، الذي تولى وظائف مهمة في أجهزة أمنية مختلفة، أن جميع الإسرائيليين، وسياسيين دوليين كثيرين، حاليا يدركون استحالة حلّ الدولتين، وأن حل القضية الفلسطينية يكمن في وجود دولة ديمقراطية واحدة تمتدّ من نهر الأردن إلى المتوسّط. ويقول شاحاف إن هذا الحلّ أصبح حديث الساعة في وسائل الإعلام، حتى أن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، الذي كان مؤيدا لحل الدولتين، نشر في العام الماضي ما يضفي الشرعية على حلّ الدولة الواحدة.
وطبقا لهذا الحل، تدمج الضفة الغربية وسكّانها في إسرائيل الموحّدة، بغض النظر عن العرق والدين، وعلى أساس دستور فيدرالي علماني، وتكون قومية المقاطعات كلها إسرائيلية، وتبقى إسرائيل دولة يهودية، مع حقّ كل مقاطعة في التعبير عن سماتها الخاصة، القومية والدينية والثقافية، وفق ما تقرّره الأغلبية فيها. وهذا سيمنع اندلاع انتفاضات جديدة، ويقضي على التهديدات الداخلية. هذا يعني نهاية حلم الفلسطينيين، الذين راهنوا على اتفاقيات أوسلو، فمقترح الدولة الفيدرالية الذي يُراد له أن يحل مشكلات الدولة والمجتمع في إسرائيل يلغي تماما حلّ الدولتين، المنتهي عند الإسرائيليين أصلا.
قد نكون أمام تصوّر غير واقعي، يصعُب أن يجمع عليه الإسرائيليون، رغم التزايد المضطرد لمؤيديه، لكن ما يعنينا أن طرحه يعبّر عن فقدان الأمل في وحدة المجتمع لدى شريحة إسرائيلية واسعة، ويعكس روحا علمانية يسارية بالأساس، ضاقت بممارسات اليمين، وما تمكّن المتدينون من تحقيقه في العقود الماضية والذي تشهد إسرائيل ذروته حاليا، بحيث يخشى اليسار أن يستيقظ يوما وقد تلاشى تأثيره الثقافي والفكري، بعدما تراجع تماما نفوذه السياسي. كذلك، يمكن أن يضرب الحل المقترح عصفورين بحجر واحد؛ فهو، من ناحية، يخلص الدولة من الأعباء التي يتسبب بها المتديّنون والحريديم، ويحفظ للعلمانيين عامة، واليسار خصوصا، هويّتهم الثقافية، ومن ناحية أخرى، يضع نهاية للقضية الفلسطينية.