الفساد الإسرائيلي في وقت الحرب
لم يعد الفساد في إسرائيل مقصوراً على زمن السلم، بل أصبح هناك تجّار حرب، تزدهر أعمالهم في الأوقات العصيبة، ويستثمرون في دماء مستوطني دولة الاحتلال. لن يتطرق المقال للفساد الممتد عبر عقدين، وأصبح مستشرياً في كل مؤسّسات الدولة، ولا إلى فضائح رئيس الحكومة نتنياهو ووزرائه في تلقي الرشا، ولا عن فسادهم في تغيير قوانين الدولة وتعديل نظامها من أجل مصالح النخبة الحاكمة، ولا حتى عن فشل الأجهزة العسكرية والاستخباراتية في توقّع ما حدث في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أو حتى التعاطي معه حتى اليوم، وإنما ستقتصر السطور التالية على الفساد المالي والإداري منذ بدء عملية طوفان الأقصى فحسب.
منذ بدأت المفاجأة التي شلت إسرائيل، شرع الإعلاميون والمؤثّرون هناك في رصد فضائح مالية وإدارية كثيرة، وجاءت الصحافة الإسرائيلية على قضايا فساد تبدأ من رأس السلطة وصولاً إلى الشركات والمؤسّسات، وهو فسادٌ يطاول حتى أكبر مؤسّسات الدولة التي كان الجميع يثق فيها يوماً ما قبل عملية طوفان الأقصى؛ وأقصد الجيش الإسرائيلي الذي أصبح التعيين في أعلى مستوياته يجري بالمحسوبية والرشا. في هذا السياق، يكتب الصحافي في معاريف، بن كسبيت، أن وزيرة البيئة، عيديت سيلمان، توسّطت لدى زوجة رئيس الوزراء، سارة نتنياهو، حتى تقنع الأخيرة زوجها بتعيين اثنين من العسكريين في قيادة الأركان. وتساءل بن كسبيت: يا تُرى، كم يدفع راغبو التعيين من أموال أو أفعال وتنازلات؟ وهذا يعني أن مناصب بهذه الخطورة لا يجري شغلها وفقاً للكفاءة، بل على أساس تفاهماتٍ تظهر مدى تأثير سارة نتنياهو على قراراتٍ تمسّ الأمن القومي لدولة الاحتلال، من دون أن تكون لها أي صفة.
خذ مثلاً آخر على تعيينات في مناصب كبرى في الجيش، تجري بناء على القرب من نتنياهو؛ فقد قام بتعيين جال هيرش، ليكون مسؤولاً عن ملف الأسرى والمخطوفين الإسرائيليين في غزّة، الأمر الذي كان محل استغراب كبير في إسرائيل، نظراً إلى تاريخ هيرش الموسوم بانعدام الكفاءة والفشل الذي يعود إلى عام 2006 حينما أشار تقرير ألموج (كتب إثر اختطاف حزب الله جنديين على حدود فلسطين الشمالية عام 2006) إلى جال هيرش بأنه "ليس مؤهّلاً للقيادة". أما تقرير لجنة فينوغراد، التي تشكّلت في أعقاب حرب لبنان الثانية 2006، فوصفه بأنه يقود جنوده بطريقة غير حاسمة، ومتسرّعة، ومن دون رؤية في حالة اشتعال الأوضاع وتدهورها.
يلجأ نتنياهو والمقرّبين منه إلى وسائل ملتوية، أو افتعال المشكلات لتجميل صورة رئيس الوزراء، أو لصرف الأنظار المسلطة كلها على فشله
ولا يقتصر الفساد في الجيش على تعيين قيادات بناءً على العلاقات وليس الكفاءة، بل يمتدّ أيضاً إلى فساد مالي كبير؛ فقد نشرت صحيفة كلكاليست الإسرائيلية في عدد 12 أكتوبر/ تشرين الأول تقريراً مفاده بأن الجيش اشترى من شركة إسرائيلية سترات واقية للرصاص، ثبت أنها غير مطابقة للمواصفات التي توفّر الحماية للجنود، وبالتالي تصبح حياة الجنود معرّضة للخطر في أي مواجهة. والأكثر من ذلك أن الجيش دفع مقابل الصفقة من أموال التبرّعات، وتضمّنت تفاصيل هذه القضية أن الجيش الأوكراني كان قد رفض شراء هذه السترات التي اشتراها الجيش الإسرائيلي لاحقاً. وعلى الرغم مما أشارت إليه الصحيفة من وجود تحقيقات جارية واعتقال مسؤولين في الشركة، فالمؤكّد أن هذه الصفقة لم تكن لتمرّ لولا انتشار الفساد في الجيش بشكلٍ يصعب تصور حجمه، أو مستوى المتورّطين فيه. والغريب أن كاتباً في صحيفة غلوبس الإسرائيلية، دعا عبر حسابه في X (تويتر سابقاً) الإسرائيليين إلى التبرّع من أجل شراء سترات واقية، مدعياً أنه يعمل بناء على طلب من قادة ميدانيين.
لهذا الفساد تاريخ طويل، وليس وليد هذه الأيام، وهو ما قاد إسرائيل إلى هذه الهزيمة القاسية في النهاية، وقد كتب يهودا شوحط مقالاً في موقع ليبرال، عنوانه "نحن ندفع الدماء نتيجة الفساد الحكومي"، يقول إن الكارثة التي حدثت هي نتيجة شهور وسنوات طويلة من الفساد الذي يمكن أن تلمسه في عدم قيام الوزراء بمهامهم، وفي تعيين غير المؤهلين وقليلي الخبرة في المناصب الكبرى، وفي عدم الموضوعية في صناعة القرار، وفي الفساد الذي تغلغل في الجيش نفسه. ولهذا، كان من الطبيعي أن يصبح عمل أعداء إسرائيل سهلاً. يضرب شوحط مثالاً على ذلك بمدير مكتب رئيس الوزراء، يوسي شيلي، ويصفه بعدم الكفاءة، وأن وصوله إلى هذا المنصب كان بسبب قربه من نتنياهو فحسب، ومهمّته أن يداري على فساد الأخير، فهو الوحيد المخوّل بتدقيق نفقات نتنياهو وعائلته، حسبما كتب عنه الصحافي أفي بار إيلي في صحيفة ذا ماركر يوم 21 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي.
كان المجتمع الإسرائيلي يتوقّع أن يقلّ مستوى الفساد أثناء الحرب أو يتوقّف، غير أن ذلك لم يحدُث، ورصدت مخالفات وممارسة ضغوط، واستغلال نفوذ من أجل تعيين مقرّبين من الوزراء في مؤسّسات وهيئات مختلفة تابعة للدولة؛ وقد ذكرت صحيفة كلكاليست قبل أيام أن وزير التعاون الإقليمي، دافيد ام سالم، كان قد التقى مديرة هيئة الشركات، وضغط عليها لتعيين ثلاث شخصيات مقرّبة إليه في مناصب كبيرة في مؤسّسة البريد، واحد منها عضو في مركزية الليكود، وأخرى زوجة عضو في مركزية الليكود. وطبقاً للصحيفة، سعى الوزير إلى إقالة مسؤولين في المؤسّسة، وضغط للإسراع بتعيين موظفين آخرين تابعين له، حتى في وقت الحرب، من أجل أن تصبح له الأغلبية في مجلس إدارة مؤسّسة البريد التي تمر بمرحلة خصخصة. وحسب الصحيفة، لم يكن هذا الوزير يتحرّك منفرداً في هذه القضية، بل بصحبة وزير الاتصالات، شلومو كرعي، وهو الوزير نفسه الذي يرتبط بعلاقات صداقة مع يائير نتنياهو. وطبقاً للصحافي في صحيفة هآرتس، ميخائيل هاوزر طوف، فإن كلاً من كرعي ويائير نتنياهو متورّطان في محاولة تعيين أحد معارفهما، وهو شخصٌ ينتمي للصهيونية الدينية، في مجلس إدارة شركة الكابلات والأقمار الصناعية.
تدير الدولة حتى في وقت الحرب شبكة فساد أصبحت عصيةً على التفكيك، وهو فساد لم يعد مقصوراً على الائتلاف الحاكم، بل يطاول أغلب السياسيين
لا يتوقّف الأمر عند هذا الحد، فكثيراً ما يتخطّاه إلى استخدام نتنياهو والمقرّبين منه وسائل ملتوية، أو افتعال المشكلات لتجميل صورة رئيس الوزراء، أو لصرف الأنظار المسلطة كلها على فشله؛ ويضرب الصحافي بن كسبيت مثالاً على ذلك، بما جرى في لقاء نتنياهو بممثلي عائلات الأسرى، وتبدأ القصة حين شكّلت هذه العائلات معاً رابطة يتولى مسؤولون عنها التواصل مع الدولة والحكومة، لمعرفة مصائر أبنائهم. وما حدث أن مكتب نتنياهو اتصل بمسؤولي الرابطة، وطلب منهم ترشيح خمسة أفراد ممثلين عنها للقاء نتنياهو، وهذا ما فعلته الرابطة فعلاً، ولما جاء موعد اللقاء حضر الممثلون الخمسة، وبمجرّد بدء اللقاء دخل شخص وهمس في أذن نتنياهو بأن هناك أربعة ممثلين آخرين عن عائلات الأسرى، فأشار إليه بإحضارهم، فدخل أربعة أشخاص بدا أنهم من المتدينين، وتحدث أحدهم بأن لديه ابنة مخطوفة يحبّها جداً، لكن حبه لإسرائيل أكبر، وعلى الناس أن تقف وراء الحكومة، وعلى نتنياهو أن يتصرف بهدوء وحسم. لم يتحمل ممثلو الرابطة ما حدث، فثار أحدهم بأن هذا الموقف لا يمثله، وأن الأسرى لا يجب أن يكونوا جزءاً من الحرب، وحاول نتنياهو استيعاب الأمر بقوله إن أحد أهداف الحرب إعادة جميع الأسرى سالمين. غير أن الموضوع لم ينته هنا، فقد فوجئ ممثلو الرابطة وأعضاؤها بصدور بيان بعد اللقاء عنوانه "أهالي المختطفين شدّدوا على رئيس الوزراء أن يقاتل حماس"، من دون ذكر للرابطة مطلقاً، والأكثر غرابة أن الخبر حمل صورة يظهر فيها واحدٌ من أهالي الأسرى يعانق نتنياهو.
وتكرّر المشهد تقريباً بعدها بأيام، لكن بتفاصيل مختلفة، مع توظيف سياسة "فرّق تسد" التي يحاول نتنياهو استخدامها من أجل البقاء؛ فقد ذهب عدد من ذوي الأسرى للقاء الرئيس هرتسوغ، وهناك كان مراسل القناة 13 يغطي الموضوع، وظهر أشخاصٌ فجأة وبدأوا يتجادلون في صورة أقرب إلى التشاجر، وينادون بالوحدة ويوجهون اللوم إلى وسائل الإعلام وأهالي الأسرى على تجمعهم، ويوبخونهم لأنهم لا يقدّرون أن الأزمة تستدعي أن يضع الجميع إسرائيل في المرتبتين الأولى والثانية. ما يهم هنا أن استخدام نتنياهو والمقربين إليه هذا الأسلوب للتحريض المستمر، أدّى، كما تقول الصحافة هناك، إلى التفكيك الداخلي للسردية الإسرائيلية، و"أفسد النسيج الجميل الذي كان هنا يوماً".
هكذا إذاً، تدير الدولة، حتى في وقت الحرب، شبكة فساد أصبحت عصيّة على التفكيك، وهو فساد لم يعد مقصوراً بالتأكيد على الائتلاف الحاكم، بل يطاول أغلب السياسيين، غير أن الإعلام يركّز على فريق واحد فحسب. والسؤال الذي يدور في أذهان أغلب الإسرائيليين حالياً: كيف يمكن أن يصطفّ الشعب خلف قيادة كهذه ضربها الفساد، وتأخذ معها دولتهم إلى مصير محتوم.