الغرب وقطر وكأس العالم... ازدواجية معايير وحقائق مزورة وتضليل ثقافي وإعلامي
في وقت يتهيأ فيه العالم بأسره لمتابعة بطولة كأس العالم 2022، والتي ستنطلق فعالياتها في العشرين من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، نجد أوساطاً إعلامية وسياسيّة واجتماعية متعدّدة، هنا في الغرب، توجه الانتقادات تباعاً لدولة قطر، والاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) التي منحت الأخيرة حق تنظيم المونديال، بطريقة أقل ما قيل عنها إنها "مشبوهة". وبدلاً من الحديث عن الجوانب الفنية أو اللوجيستية أو الرياضية لهذه التظاهرة، أو عن إمكانية الدولة لاستضافة هذه التظاهرة العالمية، وإن كان منتخبها يتمتع بالمواصفات والخبرة والكفاءة التكتيكية لخوض هذه البطولة، فإن الانتقادات كلها لا تزال تشير إلى "القرار الخاطئ" الذي ارتكبه "فيفا"، باختياره دولة "غير ديمقراطية" تنتهك حقوق العمّال الأجانب والمثليين وتمنع المعارضة السياسية. في أحيانٍ كثيرة، وأمام بعض التحليلات الغريبة جداً، يخيل للمرء أننا جميعاً أمام خطيئة أصلية يستحيل التكفير عنها، وأنه يصعُب علينا معرفة من يجب أن يتحمّل مسؤولية هذه الخطيئة: "فيفا" لأنه مؤسسة فاسدة أم "المجتمع الدولي" لأنه تورّع عن تصحيح الخطأ التاريخي؟ أم لعل السبب كان في القطريين أنفسهم، لأنهم بذلوا قصارى جهدهم من أجل الفوز بحق استضافة المونديال؟
ما يثير الانتباه، حقاً، أن نسبةً لا يستهان بها ممن يعارضون مونديال قطر لم تول أية أهمية للأمر على مدى السنوات العشر الفائتة، لكنهم بدأوا بالحديث عن الأمر منذ أسابيع قليلة فقط، بطريقة تفتقر إلى الرويّة والتوثيق والموضوعية. والأغرب من هذا كله أن المواطن الغربي أصبح هو الآخر جاهزاً، يردّد المقولات النمطية ذاتها من دون أن يكلف نفسه بالتنقيب عن مصادر بديلة أو مقاربة الموضوع من خلال وجهات نظر مختلفة، فالحكم جاهز لا يحتمل النقض أو التفنيد: قطر ليست أهلا لاستضافة كأس العالم.
قطر بلد لا يطبّق حكم الإعدام منذ عشرين عاماً. كما أن المنظمات الدولية لم تتحدّث أبداً عن تعذيب في السجون القطرية
لا أؤمن كثيراً بالأحكام المطلقة، ولذلك أجد نفسي مضطراً لطرح عدة تساءلات، عسى أن أستطيع، هنا، من منبر "العربي الجديد"، أن أضع بعض الأمور في مكانها الصحيح، سيما بعد أن اشتدّت، هنا في الغرب، حدّة المطالب الأكثر تطرّفاً بمقاطعة كأس العالم أو، إن لم يتسنّ ذلك، تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي، وبالتالي الامتناع عن إيفاد الرؤساء والملوك والوزراء للمشاركة في الاحتفالات الرسمية التي يُزمع تنظيمها. في الإطار العام، لم تلق هذه المطالب آذاناً صاغية، غير أن بعض المنتخبات الأوروبية، إضافة إلى لاعبين دوليين، اتخذوا مبادرات فردية أو جماعيّة بغية التعبير عن استيائهم "لما يحدُث في قطر الآن". منها عدم ارتداء القميص التقليدي، وإضافة شعارات وشارات خاصة على ملابسهم الرياضية، مثل شرائط سوداء حداداً على وفاة "الآلاف من العمال الأجانب"، زد على ذلك طباعة قلوب ملوّنة بألوان قوس قزح، مساندة لحقوق المثليين. وتكاد أن تكون مبادرة المنتخب الدنماركي، في هذا الإطار، الأبرز، حيث أعلن أن لاعبي منتخبه سيرتدون قمصاناً سوداء من دون التاج والشعار الوطني "احتجاجاً على سجل قطر في حقوق الإنسان". لا أريد الدخول في تفاصيل هذا السجل، قبل كل شيء، ما إن سمعتُ ذلك، حتى خطر في بالي، سريعاً، السؤال: لماذا أحجم المنتخب الدنماركي نفسه عن طمس شعاره الوطني وارتداء اللون الأسود ذاته في مونديال 2018 في روسيا، التي كانت قد احتلت شبه جزيرة القرم قبل أربع سنوات؟ لماذا لم تتهم منظمات حقوق الإنسان الأوروبية والدنماركية الدولة المنظمة آنذاك بارتكابها جرائم ضد الإنسانية؟ ولماذا سكت اتحاد كرة القدم الدنماركي عن الملاحقة التي كان المثليون ولا يزالون يتعرّضون لها في روسيا بفعل قوانين وتشريعات وتوجيهات تحدّ من حقوقهم؟
وبالمثل، لماذا سكت الفريق الأولمبي الدنماركي عن إجراءات الصين المعادية لحقوق الإنسان في تشينغيان ومناطق أخرى، عندما شارك في الألعاب الأولمبية الشتوية المنعقدة في بكين هذا العام بالتحديد، 2022؟ نعم، قد يكون سجل قطر في ميدان حقوق الإنسان قابلا للانتقاد، ولكنه بلدٌ لا يوجد فيه معارضون سياسيون، ولا يطبّق حكم الإعدام منذ عشرين عاماً. كما أن المنظمات الدولية لم تتحدّث أبداً عن تعذيب في السجون القطرية. ولكن ماذا عن الصين التي تكتظّ سجونها بالمعارضين السياسيين، ممارسةً حكم الحزب الواحد الذي يقدّس شخصية الرئيس، وينفذ عقوبة الإعدام ويفرض نظام عمل متشدّد للغاية على مواطنيه مع شروط مجحفة ورواتب زهيدة؟ صحيح أن قطر تمنع العلاقات المثلية وتحظرها علناً، ونتمنّى لو لم تفعل ذلك، ولكن، كم عدد المثليين الذين جرت محاكمتهم في غضون السنوات الماضية بعد توجيه تهمة رسمية ضدهم؟ عدد قليل جداً وفقاً لتقارير منظمات حقوق الإنسان نفسها التي تستنكر استمرار تلك القوانين! مع ذلك، لم يهتم أي طرفٍ رسمي في الدانمارك بالإجابة عن مثل هذه الأسئلة، ويمكن أن نتخيّل السبب: قطر دولة صغيرة ذات أغلبية مسلمة تقع في منطقة الشرق الأوسط المزدحمة بالمآسي والمشكلات العويصة. أما الصين وروسيا فهما قوتان عملاقتان ستتخذان إجراءات عقابية إن جرى اتخاذ تدابير احتجاجية ضدهما، حتى وإن كانت هذه التدابير نزع الشعار الوطني من على قمصان المنتخب الوطني!
دلّت التصريحات على استياء الأوساط الغربية لـ"انحياز" الاتحاد الدولي لكرة القدم لصالح قطر
وعودة إلى مفهوم الخطيئة الأصلية التي يظهر أننا اقترفناها قاطبة بخصوص مونديال 2022، فلماذا اختيرت قطر في عام 2010، قد يسأل أحدهم؟ من السذاجة ألا نعتقد أن "الرذائل" المنسوبة اليوم إلى قطر لم تكن موجودة قبل 12 سنة، وإذا كان الجواب أن "فيفا" لم يكن على علم بقوانين دولة قطر، فيحقّ لنا أن نلومه على تقاعسه وعدم نجاعته. أما إذا كانت الإجابة تستند إلى أن "القطريين اشتروا مونديالهم"، كما يزعم بعضُهم، فيجب، إذاً، بالمنطق نفسه، أن نتهم "فيفا" بالفساد والارتشاء، لأنه لم يتخذ آليات كفيلة بتأمين نزاهة آليات الاقتراع وشفافيتها. وفي هذه الحالة، لا بّد من التشكيك، وفقاً للمنطق نفسه، بجميع الاقتراعات السابقة التي جرى الاتفاق فيها على الدول المستضيفة، علماً أن الغموض يخيم على عديد منها.
ومع أن القضاءين، الأميركي والسويسري، و"فيفا" قد حققوا في موضوع الرشى والفساد، ولم تنته التحقيقات إلى أي شيءٍ يُثبت تورّط القطريين في مناوراتٍ غير شرعية لشراء أصوات المقترعين، لا يزال بعضُهم يعتبر الأمر حتمياً، فلا مبدأ البراءة ولا ضرورة الالتزام بالموضوعية يمكن أن يشفعا لدولةٍ دينَت منذ الوهلة الأولى. وهناك من يعيد خطيئة قطر الأصلية إلى أن الولايات المتحدة كانت المنافسة الأشد خطورة في عملية الاقتراع في زيوريخ (سويسرا) في عام 2010، إذ كان الوفد الأميركي "واثقا بالفوز"، على الرغم من أن الملف القطري ظفر بأعلى نسبة أصوات في جلسات التصويت الثلاث الأولى، ثم انفرد مع الملف الأميركي في الجلسة الرابعة والأخيرة ليفوز فيها مرّة أخرى. ولم يصدر أي تصريح من الوفد الأميركي آنذاك بشأن شرعية عملية الاقتراع، كما أنه لم يطالب بإعادتها، غير أن مصادر غربية عامة، وأميركية وبريطانية خاصة، أطلقت تصريحات غاضبة قد تساعدنا في استقصاء دوافع هذه المظاهر العدائية السائدة في بعض الأوساط الغربية إزاء مونديال قطر. فلنذكر الرئيس الأميركي، باراك أوباما، وتأسفه على "قرار فيفا الخاطئ"، أو تصريحات أحد لاعبي المنتخب الأميركي الأكثر شهرة، إريكي وينادا، حين ألمح إلى أن "النفظ والغاز الطبيعي هما الفائزان الحقيقيان اليوم وليس الكفاءة والأهلية". أجل، دلّت تلك التصريحات على استياء الأوساط الغربية لـ"انحياز" الاتحاد الدولي لكرة القدم لصالح قطر.
ما زالت وتيرة الاتهامات والأقاويل والمغالطات الموجّهة ضد المشروع القطري تتصاعد يوماً بعد يوم
ولم تخلُ الساحة ممن شجب قرار "فيفا" بالقول إن المال هو الذي حسم الموضوع، وكأن المال لم يكن هو العامل الحاسم في عمليات التصويت السابقة وفي كل ما يقوم به "فيفا" منذ تأسيسه، خصوصاً في 1994، حين استضافت الولايات المتحدة كأس العالم في وقت كانت فيه الأوساط الكروية العالمية، بما فيها الأوروبية، تتساءل عن فائدة إقامة البطولة في أميركا الشمالية التي لم تكن فيها لعبة كرة القدم تجذب انتباه إلا قليلين في بعض الولايات الجنوبية. وكانت حجة "فيفا" مثل حجته اليوم: نريد توسيع رقعة كرة القدم عالمياً حتى تصبح رياضة عالية الانتشار في كل مكان. أي أنه يريد أن يربح المزيد على جميع المستويات. وكان هناك من أيّد قرار "فيفا" قائلاً إن كرة القدم ملك للجميع، وينبغي أن تنفتح البطولة على أنحاء العالم كافة، بصرف النظر عن الأوضاع المناخية في مناطق محدّدة وإصرار الأوروبيين على إقامة النهائيات في موسم الصيف (طبعا يقصدون صيفهم). وبالمنطق نفسه الذي قبل فيه العالم كله أن تنظّم الولايات المتحدة البطولة غير الشعبية عندهم في 1994، لماذا لا يمكن لدولة صغيرة، مثل قطر، أن تفعل المثل؟ أليس تنظيم البطولة في دولة صغيرة في منطقة صراع دائم حافزا كبيرا لترويج السلام والمثافقة وصناعة كرة القدم في منطقة الشرق الأوسط؟ أليس الموضوع يرتبط مرّة أخرى بالمال والتجارة؟ ولكن لماذا لم يتعاملوا مع الأمر كما يتعاملون اليوم مع قطر؟
ما زالت وتيرة الاتهامات والأقاويل والمغالطات الموجّهة ضد المشروع القطري تتصاعد يوماً بعد يوم، فالمؤسسات الإعلامية الغربية توفّر باستمرار مواد ساخنةً تسعى من خلالها إلى الإضرار بصورة قطر الدولية، متجاهلةً الإجراءات الحاسمة التي قامت بها الدولة، والتعديلات الجوهرية بخصوص اليد العاملة الوافدة، إضافة إلى الإجراءات المنصفة التي اتّخذتها بخصوص تحسين ظروف العمل، لكن هذا كله لا يريدون رؤيته. بالتأكيد، لا يزال هناك أشياء كثيرة لتحسينها، ولكن الرأي العام هنا في الغرب لم يعد يلتفت إلى أي شيءٍ قد يتعارض مع الأحكام المطلقة الصادرة عن وسائل الإعلام. إنها حملة ممنهجة لتشويه هذا البلد، ثقافياً، وسياسياً، واجتماعياً وإعلامياً.
تحتج منظّمات الغرب على أوضاع العمال في قطر، ولكنه يقيم الأسوار الشائكة في وجه المهاجرين واللاجئين
وفيما يخصّ قضية المثليين، تظل وسائل الإعلام تثير الشبهات حول تعرّضهم للملاحقة في قطر في أثناء المونديال، بالرغم من أن سلطات الدوحة صرّحت أكثر من مرّة إنها ستسمح لهم بممارسة حريتهم بالتنقل من دون مساءلة، شريطة ألا يفرطوا في التعبير عن ميولهم الجنسية، وذلك مراعاة للتقاليد والأعراف السائدة في مجتمع محافظ، كالقطري والخليجي بشكل عام. وحديثاً هناك من أثار مسألة "الحرية الجنسية" والسماح لغير المتزوجين بالحجز في الفنادق القطرية من دون إجبارهم على إظهار عقد القران. وعلى الرغم من أن وكالات السفر نفت وضع الفنادق القطرية شروطا متشدّدة في وجه غير المتزوجين والمثليين الراغبين في الإقامة فيها، ما زالت الأقاويل تُذاع وتشاع بطريقة عشوائية. والأمر سيان بالنسبة لقضية سخيفة، ولكن الإعلام الغربي يتعامل معها كقضية حياة أو موت، وهي مسألة المشروبات الكحولية ومنعها ومخالفاتها وما إلى ذلك. ومرّة أخرى، أبدت دولة قطر مرونة في هذه المسائل ضمن محدّداتٍ تنصّ عليها قوانينها المحلية وأعرافها الدينية والاجتماعية والقبلية، حيث تم تجهيز بعض المناطق لتجمعات المشجعين. وما يغيظ شريحة واسعة من هواة كرة القدم في بلداننا الغربية، وأضع نفسي بينهم، تشدّد بعض الجهات في إدراج قضية الكحول تحت راية الحريات الشخصية، كما لو أن السير ثملا في شوارع الدول الغربية كان مسموحاً!
بعد هذا كله، لا غرو من القول إن هذه القضية وغيرها من التي تعظّمها جهات متفرّقة هنا، بمناسبة أو بدونها، تثير اهتماماً غربياً واضحاً. وكنت أتمنّى، بوصفي مواطنا غربيا أن نهتم بمسائل أخلاقية رئيسية تشغل بال الناس في أفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينية. لقد بات كذبنا ونفاقنا مكشوفاً للجميع. تحتج منظّماتنا على أوضاع العمال في قطر، ولكن الغرب يقيم الأسوار الشائكة في وجه المهاجرين واللاجئين، ويسنّ تشريعاتٍ تمييزية ضدهم، ويغضّ الطرف عن تردّي أوضاع العمال الأجانب على أراضيه، ثم يسلّح أنظمة مستبدّة تقمع شعوبها وتجبرههم على الرحيل. وبينما نهيمن، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، على دول فقيرة كثيرة، نفرض عليها سياسات اقتصادية وتجارية انتهازية نحن أكبر المستفيدين منها، على حساب مصالح شعوبها، في سياق استراتيجيةٍ متطوّرة يمكن وصفها بالاستعمار الجديد.
اسمحوا لي، أخيراً، أن أطرح السؤال التالي، وأنا أعرف أنني لن أجد من يجيبني عنه هنا في الغرب: إلى متى سنظل نلقن الدروس الأخلاقية والحضارية لشعوبٍ ودول تعرف أننا منافقون، كاذبون ومضللون.