الغرب... كُلُّ هذه السفالة
لم يكن المرء بحاجة لعملية طوفان الأقصى ليدرك مدى انحياز الغرب للكيان الصهيوني واستعداده لفعل أي شيء من أجل ضمان أمنه وبقائه، فقد صار ذلك من بديهيات الصراع منذ قيام هذا الكيان، الذي يدين بنشأته وتغوُّله للدول الغربية الكبرى التي رعته ومكّنته من وسائل التفوّق العسكري والتكنولوجي.
تُعيدُ الهجمةُ البربرية الصهيونية الحالية على الشعب الفلسطيني هذا الانحياز إلى الواجهة بشكلٍ لا يخلو من دلالة، فلم يكن مفاجئا أن تُدين الدول الغربية هجوم المقاومة الفلسطينية على العمق الإسرائيلي، وتُبديَ تضامنها مع دولة الاحتلال. لكن المفاجئ، أو بالأحرى الصادمَ، كانت اللامبالاة التي قابلت بها هذه الدولُ العدوانَ الوحشي الذي تشنّه قوات الاحتلال على قطاع غزّة منذ أكثر أسبوعين، فيما لا تفتأ تتنادى من أجل احترام القانون الدولي الإنساني في الحرب الروسية الأوكرانية، وتذكير المجتمع الدولي بضرورة حماية المدنيين الأوكرانيين العزّل في مواجهة القوات الروسية.
لا يحقّ للشعب الفلسطيني أن ينتفض في وجه مختلف أشكال الظلم الذي يلحق به منذ 1948، بينما يَحِقُّ ذلك للأوكرانيين في مواجهتهم الغزو الروسي. أي منطق هذا؟ وتحت أي بندٍ في المدوّنات السياسية والأخلاقية يمكن قبول ذلك؟ كيف يُنظَر إلى ما يقوم به الأوكرانيون دفاعا عن النفس ومقاومة وطنية مشروعة، بينما الفعل ذاته يُعدُّ إرهابا إذا ما قام به الفلسطينيون؟ ما الفرق بين مدنيين عُزّل يسقطون في كييف وآخرين يسقُطون في غزّة وجنين ورام الله؟
من المُخزي أن يُوظَّف القانون الدولي الإنساني بهذه الانتقائية الفجّة، فلا تُعدُّ مذبحة مستشفى المعمداني إبادة جماعية ولا جريمةً حرب، ما دامت قوات الاحتلال في حربٍ مفتوحة على ''الإرهاب الفلسطيني''. والأدهى أن وسائل إعلام غربية لم تخجل من تبنّي الرواية الإسرائيلية، في مسعى إلى إلصاق تهمة قصف المستشفى بحركة الجهاد الإسلامي، في ضربٍ سافر لقواعد الحياد المهني. أقصى ما يمكن أن يحظى به القتلى الفلسطينيون، من منظور الغرب، إبداءُ بعض الأسف على موتهم وتحميل المسؤولية، في ذلك، للمقاومة الفلسطينية التي ترفض التسليم بواقع الاحتلال وما يترتب عنه من تصفيةٍ ممنهجةٍ للحقوق التاريخية للفلسطينيين.
ليس هناك، في الإعلام الغربي، مجال لإدانة الجرائم الإسرائيلية المروِّعة بحق الأطفال والنساء والشيوخ في غزة. ولا يقف انحيازه لإسرائيل عند ذلك، بل يتخطّاه إلى التضييق على كل من سوّلت له نفسه التضامنَ مع الفلسطينيين، إلى درجة بات رفع العلم الفلسطيني في ساحات المدن الأوروبية والأميركية معاداةً للسامية وخروجا عن القانون.
كان صعود المقاومة الفلسطينية وتطوّرُ قدراتها العسكرية بمثابة تحدٍّ للدول الغربية المساندة لإسرائيل. ولذلك كان وضعُ ما حدث في السبت المعلوم في سرديةٍ متّسقةٍ، يسهُل تسويقها إعلاميا، أكبرَ تحدٍّ واجهه الإعلامان الإسرائيلي والغربي، حيث لم يتوقّفا عن محاولة النيْل من المقاومة الفلسطينية بِنعتها بالإرهاب واتهامها بقتل مدنيين إسرائيليين والتمثيل بهم، في محاولة للتغطية على الفشل الأمني والاستخباري الذريع لدولة الاحتلال في مواجهة ''طوفان الأقصى''. ومع اشتداد وتيرة القصف الإسرائيلي على قطاع غزّة، تُسارع وسائل الإعلام الغربي الزمنَ من أجل التحكّم في كل ما ينشر على منصّات التواصل الاجتماعي، بما يُعزّز السردية الإسرائيلية، ويُحاصر، في المقابل، السردية الفلسطينية والعربية ويحدُّ من انتشارها، لا سيما أمام بروز انقسام داخل الرأي العام الغربي، من خلال حركاتٍ وجماعاتٍ لم تعد تتردّد في إبداء تعاطفها مع الفلسطينيين، مستغلةً ما تتيحه "السوشيال ميديا" من موارد تسمح بإيصال الصوت الفلسطيني. ويمثل ذلك مشكلة كبرى للدعاية الصهيونية في المنظور البعيد.
لم يكشف ''طوفان الأقصى'' نفاق الغرب فقط، بل أيضا سفالته وسقوطه الأخلاقي. لكنه، في المقابل، أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد الدولي، بشكلٍ يربك حساباته التي كان يعتقد قادتُهُ أن إسرائيل باتت قاب قوسين أو أدنى من تصفية القضية الفلسطينية إلى الأبد، وسط تواطؤ عربي مكشوف.