العسكر والمقبحة الجارية

30 ابريل 2023
+ الخط -

آن الأوان كي نستأذن نزار قباني أن يقدّم لنا شيك الخسارة على بياض كي نملأه نحن، عندما قال في رثاء بلقيس: "لو أنهم من ربع قرن حرّروا زيتونة .. أو أرجعوا ليمونة ومحوا عن التاريخ عاره/ لشكرت من قتلوك يا بلقيس يا معشوقتي حتى الثمالة". والمقصود أن يترك الشاعر لنا الزمن فارغاً في قوله "من ربع قرن"؛ لأن الربع تحوّل إلى نصف، والنصف استحال إلى "يوبيل ماسيّ" على احتلال فلسطين، وأراهن أن هناك من سيحتفل به من العرب.

أقول ذلك مشاركاً في احتفال "تكسير الفخّار على بعضه"، في السودان، الذي حكمه عسكر فوق عسكر، ثمّ تناسل العسكر إلى ألف عسكر، على اعتبار أنها "الفضيلة" الوحيدة التي منّت علينا بها الانقلابات العسكرية العربية منذ حوّل العسكر بنادقهم من الثغور إلى العروش.

تمنّينا أن نقول فعلاً في أحداث السودان "فخّار يكسّر بعضه"، لأننا مدركون، تماماً، أن كلّ رصاصة تُطلق بين الخصمين، كفيلة بإنقاذ ضحيةٍ من الشعب السوداني الذي ينتظر حتفاً لا يدري من أي طرفٍ يجيء، من عسكر البرهان أم من عسكر حميدتي؟ ومن مهازل الزمن المفتوح على شيك البياض، أن الصهاينة يشاركوننا الاحتفال بضياع رصاصةٍ عربيةٍ أخرى لم تُسدّد إلى صدورهم، أي أن الاحتفال مشتركٌ هذه المرّة بيننا وبينهم، مع فارق أن الرصاصة لن تُسدّد إليهم أبداً ما دام عسكرنا هم من يحملون البندقية، لكنهم يخشون من تبدّل الأيدي التي تمتشق البنادق، ولذا يسعون بكل مكائدهم لتجريد الجيل المقبل من رصاصاته.

وعلى ذكر "الجيل"، يبدو أن لكل جيل عسكره أيضاً، لأن العسكر يتناسلون مع الأجيال، ليحتلّوا المستقبل، وتلك هي الطامة التي لم نحسِب حسابها، عندما خضعنا لحكم العسكر، وسلّمنا إليهم مصائرنا، فالجنرالات الذين ماتوا ما زالوا يحكموننا من قبورهم، والذين بدل أن يتركوا لنا "صدقة جارية" بدفن حكمهم معهم، آثروا أن يتركوا "مقبحةً جارية" من أقرانهم وأبنائهم، حتى وإن كان بعضهم ذا نياتٍ سليمة، على غرار الجنرال جمال عبد الناصر، الذي جاء إلى الحكم بانقلاب عسكري، ولم يشأ أن يُرسي مؤسّساتٍ ديمقراطيةٍ ودستورية، ويعيد العسكر إلى ثكناتهم، بل أنشأ مجلس قيادة ثورة استولى على كلّ السلطات، فخلفه من بعده جنرالاتٌ انقلبوا على كل النيات الحسنة لسلفهم، على اعتبار أنهم يعشقون الانقلابات، حتى على رفاقهم، وعطفوا المسيرة إلى خانة التطبيع ومعاهدات الذلّ مع إسرائيل، من أنور السادات، مروراً بحسني مبارك، وليس انتهاء بمن قاد انقلاباً على الديمقراطية الوليدة التي بشّر بها ربيع مصر. كلهم كانوا جنرالات، رأوا أن "معركتهم" الوحيدة التي ينبغي أن ينتصروا بها، بكامل أسلحتهم، هي التشبّث بالسلطة حتى آخر جنرال.

وفي سورية، ترك الجنرال حافظ الأسد "مقبحة جارية" هو الآخر، عندما أورث الحكم لابنه من بعده، منقلباً على كل الشعارات التي قدم من رحمها في حزب البعث، وتحوّلت البلد كلها إلى ثكنة عسكرية وأمنية ومخابراتية، لا يظهر فيها غير لون "الفوتيك" الأخضر.

وفي السودان التي تدوّن فصلاً عسكريّاً جديداً اليوم لم يكن غير نتاج "مقبحة جارية" من الجنرال المُطاح عمر البشير الذي لم يكتف بجيش واحد، بل ارتأى إنشاء آخر رديف لا يحمل أياً من قيم الشرف العسكريّ، بل كان محض مليشيات منظمة للقتل والتدمير والفتك بالمتظاهرين السلميين، فثمة مهزلة أخرى تدور رحاها بين فريقين يلتفّان على ربيع الشعب، ويسعى كلّ طرفٍ للاستئثار بكعكة السلطة، بعد أن نهبا كعك الذهب والموارد، وربما كعك العيد أيضاً.

كنا نودّ للشماتة أن تكتمل في الفخّار الذي يكسر بعضه هناك، لولا أننا نعرف جيداً أن الثمن الأبهظ يدفعه شعبٌ طيبٌ مسالم، كلّ ذنبه أنه طلب الحرية يوماً، فاجتمع عليه الخصوم من كلّ حدب وصوب، وحيكت له المؤامرات، لا من الداخل فقط، بل من عواصم الإقليم كلها.

كنّا رجوْنا، لكننا اكتشفنا أننا وحدنا من يتكسّر حتى في حرب الفخّار بأيدي عسكر "لم يحرّروا زيتونة".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.