العراق ومثلث الاستقرار
العراق في حالة حرجة، نعم هو كذلك، فهو على الرغم من رهان بعضهم على أن الانتخابات المبكّرة التي جرت في 10 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري ستكون بدايةً لطريقٍ ما يرى العراقيون، في نهايته، ضوءاً للاستقرار والرخاء السياسي والاقتصادي والأمني. تحالفات وأحزاب وقوى انكشفت عوراتها بعد أن أفقدتها نتائج الانتخابات حتى جمهورها المفترض؛ كما حصل مع تحالف الفتح ومليشيا عصائب الحق وحزب الله وآخرين يمتلكون أذرعاً مليشياوية وموالين في الأجهزة الأمنية والعسكرية. وبدل مراجعة الأداء ورصد تجاوزاتهم بحق المواطنين والدستور العراقي وما تسببت به إدارتهم ملفّات الدولة العراقية من فساد وتجاوز على حقوق العراقيين في العيش الآمن الكريم، أخذتهم العزّة بالإثم، وانبروا يهدّدون بنيل "حقهم" في الفوز بأعلى الأصوات، أو تعريض السلم الأهلي في العراق للخطر.
تراجعت مفوضية الانتخابات في العراق خطوة، بعد أن أعلنت نتائج الانتخابات الأولية، فمرّرت نتائج جديدة، بعد إجراء العد والفرز اليدوي لمحطّات اختيرت عشوائياً، كان من حصيلتها رفعٌ محدودٌ لعدد مقاعد بعض القوى وخسارة قوى أخرى مقاعد محدودة أيضاً، وكان حزب الدعوة الممثل بـ"دولة القانون"، برئاسة نوري المالكي، أكثر المستفيدين من هذا المتغير، حيث يكمن الصراع الحقيقي مع كتلة الصدر، ومقتدى الصدر شخصياً. وقد حققت هذه انتصاراً انتخابياً لافتاً، فقد باتت، بحسب عدد المقاعد التي حصلت عليها، الكتلة الفائزة وبمسافة بعيدة عن أقرب منافسيها. لكن الصدر، وكما هو في أغلب المواقف، استعجل بيان النصر، حيث وجّه، بعد الإعلان الابتدائي لنتائج الانتخابات، من خلال كلمة تلفزيونية، سلسلة من الإنذارات تجاه الكتل السياسية الفاسدة والقوى المليشياوية، بما فيها من تصف نفسها بـ"المقاومة". والأهم تحذيره سفارات أجنبية، يؤكد العراقيون أنه قصد بها السفارة الإيرانية ثم الأميركية والبريطانية، وهو ما زاد من وتيرة تحشيد "البيت الشيعي السياسي" والقوى المسلحة الولائية لإيران، بإعلان تهديداتها بأخذ حقوقها الانتخابية وحقوق ناخبيهم ولو بقوة السلاح.
يعلم الصدر حجم جدّية إيران في عدم تسامحها بخروج العراق من البيت الإيراني، وليس الشيعي، كما ينصّ خطابهم الإعلامي
من خلال الأوضاع القلقة والحرجة جداً في العراق، ومع تزايد التحشيد السياسي "الشيعي" مع تحرّكاتٍ واسعةٍ لكسب الأكراد وكتلة "عزم" السنية وغيرها، في محاولة لتشكيل تحالفٍ كبير، يتجاوز عدد مقاعد مقتدى الصدر، ويقدّمون لتحالفهم مرشحا لرئاسة الوزراء، هو نوري المالكي، وهو ما يستدعي حراكاً أسرع وأوسع للتيار الصدري باتجاه تشكيل تحالف لا يمكن مجاراته تحت قبة البرلمان. لكن، وهو من توقعات كل المراقبين لسلوك قائد التيار الصدري، وأهم هذه السلوكيات المزاجية في اتخاذ القرارات، ثم الأهم الانحناء لضغوط إيران المباشرة، والتي يعلم الصدر حجم جدّيتها في عدم تسامحها بخروج العراق من البيت الإيراني، وليس الشيعي، كما ينصّ خطابهم الإعلامي.
إذن، وأمام هذه الصورة القاتمة لأوضاع الحالة السياسية والأمنية العراقية، ما الذي ينبغي على كتلة الصدر فعله، لتحقيق رغبة ناخبيه الذين يرون في خطابه المعلن بصيص أمل في إخراج العراق من حالة الفوضى والفساد والسلاح المنفلت والهيمنة الأجنبية على مقدّراته وتردّي الحالة المعاشية والتعليمية والخدمية، وكل المؤشرات السلبية الأخرى التي تؤشرها ليس أحوال العراقيين فقط، بل وكل المنظمات الدولية بكل تخصّصاتها؟
أمام مقتدى الصدر فرصة تاريخية ليبدأ في التحرّك، عبر فريقه السياسي، لتشكيل تحالفٍ لا يمكن اختراقه
أمام مقتدى الصدر فرصة تاريخية ليبدأ في التحرّك، عبر فريقه السياسي، لتشكيل تحالفٍ لا يمكن اختراقه، تحالف يدع الأغلبية المطلقة له داخل البرلمان العراقي، كما أن نتائج الانتخابات قدّمت له خدمة إضافية، تعينه على هذا الأمر، وهي حصول تحالف "تقدّم" السنيّ بزعامة محمد الحلبوسي على 37 مقعداً، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني على 32 مقعداً، فإذا ما تم تحالف هذه القوى يكون لدى التحالف الجديد 142 مقعداً، وإذا ما تم التحرّك على الذين قدّموا أنفسهم "مستقلين"، وفازوا بـ 40 مقعداً، تكون النتيجة غير قابلة للمواجهة من تحالفٍ أو تكتل آخر، لأن بقية القوى بكل انتماءاتها، القومية والدينية والطائفية، لا يمكنها تجاوز حاجز المائة مقعد إن تحالفت مع بعضها، وهذا شبه مستحيل، بحسب تاريخ التحالفات السياسية في العراق منذ 2005.
يراقب الشارع العراقي الأوضاع عن كثب، وهو، على الرغم من مقاطعة غالبيته الانتخابات، لن يسامح أو يتجاهل تجاه أي محاصصة طائفية قادمة، ولا أيٍّ من وجوه الفساد والإفساد المعروفة لديه. وملامح هيجان شعبي قد يفضي إلى حراكٍ يفوق انتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول 2019، تستعر نيرانه تحت رماد انتخابات 2021، ينتظر الجميع خروجاً آمناً للعراق قبل أن تتحوّل إلى حرائق لا أحد يعلم إلى أين ستُفضي بهذا البلد المبتلى.