"العدو" الذي انتشلَ العلويين من مستنقع الأسد
خلّفَ السيناريو المفاجئ لسيطرة قوات المعارضة، بقيادة هيئة تحرير الشام، على المدن السورية، وبسرعة غير متوقعة، مشهداً ضبابياً أثار تساؤلات ملتهبة بشأن حقيقة ما يجري، اتضحت ملامحه الأولية لاحقاً، إذ تبيّن أنّ هناك إرادة دولية لخلع نظام بشّار الأسد العنجهي المتعنّت من جذوره، وسط متابعة حثيثة من القوى الفاعلة في الملف السوري لتمدّد قوات المعارضة وضبط إيقاعها. وجعلت ضخامة هذا الحدث مقاربات جموع السوريين في البداية تنطلق من مقدّمات كلاسيكية، سواء بالتأييد المنفعل أو بالرفض المنفعل، بينما دفعت محلّلين ومراقبين كثراً إلى قراءة التطورات الأخيرة بأشكال متباينة، بل متناقضة أحياناً من حيث الأهداف والنتائج المتوقّعة، مؤكّدين أنّ نيّة التغيير بدأت بعد تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أنّ بشّار الأسد يلعب بالنار إثر رفضه تخلّيه عن إيران ووصفه الإسرائيليين بقطعان من المستوطنين الهمج، في القمّة العربية الإسلامية غير العادية في الرياض أخيراً.
من ثم، السؤال الجوهري الواجب طرحه هنا: هل يدرك السوريون الموالون، العلويون خاصة، خطورة المرحلة التي يمرّون بها، أيضاً حساسية موقفهم وتعاملهم مع المستجدات الراهنة خاصة أنّ "حاميهم" تخلّى عنهم تاركاً وراءه إرثاً هائلاً من الدم والدمار والقهر يدينهم هم أولاً، بعدما تجاوزوا كلّ الخطوط الحمراء لأجل حماية عرشه، فكان أن كافأ تضحياتهم قبيل الهروب بزيادة رواتب العسكريين بنسبة 50% قبل أن يرسلهم مجدداً إلى ساحات الموت!، يراقبون غير مصدقين قائد هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، في مناطق مختلفة من البلاد محاطاً بالمؤيدين والمهلّلين، وكأنّ بساط النجومية المقدّسة سُحب "ظلماً" من تحت قدمَي بشار الأسد.
انطلاقاً من وقائع سابقة لا تحتمل التلوّن والتحولات، يتّضح أنه عندما مدّ العالم كله يده لإنقاذ بشار الأسد، لم يقم الأخير بأيّ تنازل واحد لمصلحة شعبه حقناً للدماء. كلّ خيار مطروح على طاولة الإنقاذ الوطني كان يعمل على تمييعه وتسطيحه، ليغدو إنجازه الوحيد حتى يوم هروبه المشين تحويل السوريين إلى أعداء وسط فضاء مسموم تشاركَ فيه كلّ مكوّن مظلوميات مأزومة بنت جدران فصل حول نفسها، لتخلف صدوعاً كنّا نظنها غير قابلة للرأب أبداً، حتى رأينا اليوم سوريين سنّة يظهرون في مقاطع فيديو يسامحون الآخر على فقدانهم أحبتهم، بالتوازي مع قيام قوات هيئة تحرير الشام بالمرور بالقرى والبلدات العلوية ترمي السلام وتمضي، مثيرين دهشة العلويين وتساؤلهم: (أهذا هو العدو الذي كان يخوّفنا منه؟!)، في إشارة إلى نظام الأسد.
الفترات التي تسودها نوبات الهلع الاجتماعي تميل فيها الغريزة إلى الخضوع كلياً للسلطة
ثم إن علينا الجزم بيقين أنّ المشكلة الطائفية في سورية لم تنشأ بسبب تنوّع التركيبة الطائفية أو بسبب تناقض مصالح هذه الطوائف، بل في استثمار نظام الأسد السياسي فيها. يضاف إليها ثوابت وحقائق لا ينبغي القفز عليها أو تجاوزها في قراءة المشهد السوري الراهن، أهمّها أنّ العلويين لم يعرفوا طعم الطمأنينة بعيداً عن ظلّ الأسد. ومهما يكن من أمر ذلك، فلا أحد يعلم إلى أين ستستقر الأمور، لكن الواضح شيء جذري في الوعي الجمعي للعلويين لم يتغيّر حتّى الأيام الأخيرة، وهو الخوف الذي لا يعيد النظر في المبادئ والمسلّمات "الأسدية" ويراجع البديهيات تحت سقف المواطنة لإنقاذ خيارات العمل السياسي، بعدما حفّظوهم بالقوة المنطلقات النظرية حول كره الآخر المختلف ونبذه. ينكفئون إلى كنتوناتهم الطائفية ما إن يشعروا بالخطر. خذ مثالاً، مشهد الحافلة التي نقلت طلاب الأكاديمية العسكرية المحاصرين في حلب، وفي طريقهم إلى حمص هتف الطلاب المذعورون: (الله.. سورية.. بشّار وبس).
في السياق، يتأكّد أنّ الفترات التي تسودها نوبات الهلع الاجتماعي تميل فيها الغريزة إلى الخضوع كلياً للسلطة، يتضح ذلك جلياً من طوابير المواطنين السوريين العلويين الهاربين من جلّ المناطق السورية التي دخلتها قوات المعارضة، وأملهم في إنقاذ نظام الأسد لهم، لتؤكّد أن "الخوف السياسي" هو العدو الأول الذي شكّل على الدوام فعل تعطيلٍ وإحجام للدولة الوطنية المشتهاة، نتج عنه دائماً ردات أفعالٍ سلبية غير محسوبة ولا متوقعة بحدوده الظرفية السورية، ولا شك أن التصريحات الطائفية من قبيل "الأسد أو نحرق البلد" لطالما عكست صورة ذلك الخائف الأبدي الغارق في العجز. فكلّ حدث مستجد يهدّد عرش الأسد كان يستدعي من مواليه استجابة انفعالية لا عقلانية، فهم، مثلاً، يرتضون العيش جياعاً وعُراة ولا يمدّون يدهم إلى الآخرين، ليتحول الخوف تدريجياً إلى قوة انضباطية تُحيل مشاعر الاحتجاج إلى حالة من التغاضي التام.
في جذر ما تقدّم ذكره، يعيش العلويون اليوم فصلاً كاملاً من هول الصدمة التي وضعتهم في مفارقة غريبة: كيف يحميهم من يُفترض أنه "العدو الإرهابي المتطرّف"، يمدّ يده ببساطة ينتشلهم من مستنقع الخوف الذي مرّغهم نظام الأسد فيه طيلة خمسة عقود؟!، بينما الكارثة الحقيقية كانت تتجلّى بسلوكهم الإنكاري اللاعقلاني الذي يسير خلف غوغائية شعور الانتقام، وأساسه التوجس من الآخر الذي سيقتلني إذا ما سارعت وقتلته، أو ربما الخوف من حقيقة اكتشاف أنّ عدوي مجرّد شريك في الوطن ذنبه الوحيد أنه رأى الأمور من زاوية مختلفة.
ليس أمان السوري في انتمائه، إنما بالإيمان بالشريك المختلف
وعليه، كلّ حدث يُخرج الأمور عن سيطرة الأسد كان يستثير خوفهم وغضبهم في آن، كما حصل إبان انتفاضة 2011، وثورة السويداء لاحقاً، فتخوينهم لهما مبرّر (بالمعنى الميكافيللي) في سياق تحقيق الغايات الخبيثة المُضمرة التي ينشدها بشار الأسد الذي يؤمن أنه كلما مسّ حاضنته جرثوم الخوف والتعصب كان هذا كفيلاً بنقله إلى مستوى آخر من التفعيل، ليشكل في النهاية الدرع الحامي لنظامه المجرم. لذا بقيت اللغة المتداولة في أذهان الموالين تتلخص بثنائية: "نحن مقابل هم". عبارة لئيمة تُشعر الفرد بأنه ينتمي إلى مجموعة أيديولوجية مُهدَّدة بالانقراض من مجموعة ثانية، فخّخها نظام الأسد بالمزاودات القومية والدينية ليقيم عالماً مركّباً من قوالب جاهزة يقوم على الخوف والتعصب، لا على التعايش والتسامح. والنتيجة أنّ العلويين يشهدون اليوم فصل الحصاد المرّ رغم حلاوته، كأنهم ينخرطون في مسرحية هزلية اسمها "مزرعة الأسد بلا أسد"، وهم المشاهدون والممثلون على حدّ سواء.
في كتابه "دائرة الخوف... العلويون السوريون في الحرب والسلم" استخدم ليون ت. غولدسميث مبدأ "العصبية" إطاراً عامّاً لفهم ذهنية العلويين، واعتبر إدراج الخوف في التحليل الجيوسياسي من المنظورات المثيرة التي وُظفت في حماية الأسد والتوهم بحتمية انهيار المجتمع السوري بدونه، فتمّت التضحية بالحرية والكرامة والخبز من أجل الأمان وفي النتيجة خسروها جميعاً. إذاً من رؤية قوامُها تسليم ناجز لا جدال فيه، ولا حتى تمحيص، تبدو الأحداث الراهنة غاية في الأهمية لأنها كشفت للسوريين أنّ تحرير الأرض بدون خلع عباءة الخوف لا يعني أيّ شيء.
نافل القول، ليس أمان السوري في انتمائه، إنما بالإيمان بالشريك المختلف، وبأنّ الاعتذار عند الخطأ فروسية وبطولة، فشدّة التوتر الطائفي لطالما تعلّقت بعمق الأزمة السياسية، وإنّ تراجعها، في ظل موت حكم الأبد إلى الأبد، سيعطيها بالضرورة صفة المؤقت إلى أن تنجلي آثار نظام الأسد الاستبدادي الظلامي نهائياً، حيث لا يبقى من مملكة الخوف والصمت سوى ذاك المشهد الخالد: تماثيل "الأسدين" يسحلها السوريون بفرحٍ غامر إلى قاع العدم، حيث لا عودة.