العدالة للضحايا السوريين
عشر سنوات على اندلاع الثورة السورية كانت خلالها المطالبة بالحرية للشعب تتكرّر على الألسن، تماماً مثل العدالة. ولكن، كما كل شيء في هذا البلد، المنقسم عمودياً وأفقياً، مذهبياً وسياسياً وعسكرياً، تصبح العدالة موضع تساؤل عندما تبدأ بالتحقّق، ولو جزئياً، تحت عناوين من قبيل: لماذا محاسبة الصغار قبل الكبار؟ لماذا محاكمة هذا الشخص وليس ذاك؟ على غرار ما بدأ يتردّد بعد الحكم الصادر أخيرا في ألمانيا بحق أحد العناصر الأمنيين الذي انشقّ في الأشهر الأولى من الثورة.
تغيب عن أصحاب هذه الطروحات حاجة الضحايا السوريين، المواطنين، إلى إنهاء حالة الإفلات من العقاب، سواء أكان مرتكب الجريمة في صف النظام أو المعارضة أو التنظيمات المتطرّفة، وجعل كل من تلوثت يداه بدماء الشعب وانتهاك حقوقه وكراماته، من خلال عمليات القتل والتعذيب والإخفاء القسري، يُفكر بدل المرة ألفاً قبل أن يظنّ نفسه آمناً.
والأهم أن على هؤلاء إدراك أن العدالة تعني حكماً إنصاف جميع من تعرّضوا للانتهاك بالوسائل القانونية. والبداية تكون بمن تتوفر أدلة على تورّطه أولاً، سواء كان مُصدِراً للأوامر من أصحاب المراتب العليا أو مجرد عنصر يطبق ما يطلب منه من خلال قصفه مناطق سكنية، أو اعتقاله مواطنين ثم رميهم في السجون، ليتعرّضوا للتعذيب أو القتل أو الحرمان من الحرية. من ظنوا أن وجودهم في بلدان أوروبية تحت صفة لاجئين سيحميهم اكتشفوا، على مدى السنوات الماضية، عدم صحة هذا الرهان. وجميع الناجين الذين وجدوا أنفسهم في دول أوروبية تعتمد مبدأ الولاية القضائية العالمية عثروا على خيارٍ حقيقيّ لتقديم شكاوى بحق جلاديهم.
الدعاوى القانونية التي ترفع في أكثر من دولة أوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا، هي الخيار المتاح حالياً، لا سيما أن محاكمة كبار المسؤولين/ المجرمين لا تزال بعيدة المنال، في غياب الإرادة السياسية الدولية لمحاسبة النظام، ومع الغطاء الذي يحظى به على وجه الخصوص من روسيا والصين، واستحالة تحويل الفظائع السورية إلى المحكمة الجنائية الدولية، لعدم توفر التوافق المطلوب في مجلس الأمن، ناهيك عن غياب أي فرصةٍ حالياً للملاحقة القضائية المحلية.
ما يتحقق راهناً من تحرّك للقضاء في أكثر من دولة أوروبية، وإنْ بتفاوت، حيث رُدت بعض الدعاوى، وأطلق عدد من المتهمين، ليس ثانوياً، بل خطوة يمكن البناء عليها مستقبلاً، إذ من شأنها تشجيع الضحايا على التبليغ عن الجرائم المرتكبة بحقهم، لأنهم باتوا يدركون أن المحاسبة ممكنة، ولكن من دون آمال زائفة، أو تضخيم لحجم ما قد يتحقق، لأن محاكمة الجميع، وبناء على التجارب العالمية في هذا المجال، تقود إلى خلاصة استحالة تحقّق ذلك.
وذلك كله يتطلب، حكماً، من المنظمات الحقوقية السورية العاملة في هذا المجال، أن تكون على قدر المسؤولية، خصوصاً في ما يتعلق بعمليات الرصد والتوثيق لشهادات ضحايا الانتهاكات، وتنقيتها، لأن من شأن أي خطأ، وهو وارد الحدوث في مثل هذه الحالات، وبسبب نقص الخبرات، أن يلحق أضراراً تصيب الهدف الأساس، أي محاسبة المجرمين الحقيقيين، وعدم السماح بتحويل هذا المسار إلى عملية انتقام عشوائية.
أما مسألة صفح الضحايا أو ذويهم عن أصحاب المراتب الدنيا، أي المنشقّين الأوائل، فيمكن أن تحدث عندما تطبق العدالة الانتقالية وتتقدّم، أي تتوفر إمكانية المصالحة، لا في المرحلة الأولى الحالية التي يمكن وضعها تحت خانة المحاسبة أولاً.