العجز السياسي والهروب الكبير من الشأن العام
يمضي النظام السياسي في تونس منذ 25 يوليو/ تموز 2021، بتفكيك كل المنجز السياسي الذي راكمته البلاد بعد الاستقلال، من دون تمييز بين الغثّ والسمين. حتى فكرة الحزب التي ناضلت من أجلها النخب منذ بداية القرن التاسع عشر تتلاشى حالياً. عاشت تونس فترات طويلة من الأحادية الحزبية وأخرى من التعدّدية على شكلانيتها والتباسات السماح بها في بداية ثمانينيات القرن الماضي مع الرئيس الحبيب بورقيبة، ولكن التونسيين ظلوا، في كل الأحوال، يعتقدون أن هذه الكيانات السياسية يمكن ان تتيح لهم أشكالاً من المشاركة، فضلاً عن حلّ مشكلاتهم وتلبية مطالبهم وإيصال أصواتهم.
لاذ الناس، حين ضاقت عليهم الحياة السياسية واختنقوا، بالمجتمع المدني، وهو جملة من الجمعيات النخبوية التي ظلت تعبّئ الناس من أجل قضايا حقوقية: حقوق الإنسان، المساواة بين الجنسين، إلخ. ومع كل المساوئ التي ورثناها عن المجتمع المدني هذا، وفي مقدمتها التحزّب المفرط لهذه الجمعيات، وتحوّلها الى حدائق خلفية لعمل سياسي حزبي متستر، فإنها ظلت، خلال أكثر من قرنين على اكتشافها فضاءً للتعبئة المواطنية، وورشات للمساهمة السياسية والمدنية، تستقطب الكثير من النخب، الشباب خصوصاً. استطاعت في مناسبات عديدة أن تجبر السلطات السياسية على التراجع عن قرارات ومواقف، واستطاعت أيضاً أن تجبرها على تطوير التشريعات والكفّ عن انتهاكاتها.
تتوسع قناعات لدى فئات اجتماعية عديدة بأن البلاد لا تحتاج إلى الأحزاب أو الجمعيات أصلاً
يمضي النظام في تفكيك كل هذا التراث السياسي العريق، ولكن بحيلٍ ناعمة، ليست بالضرورة جذرية تمنع العمل الحزبي، أو تلاحق الناشطين المدنيين وتجرّم العمل الجمعياتي. منع الرئيس زين العابدين بن علي، مثلاً، نشاط الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، سنوات، وحاصرت قوات الأمن مقارّها، ولوحقَت قيادات منها وسُجنت. الأمر حالياً مختلفٌ نوعاً ما، ثم تتوسع قناعات لدى فئات اجتماعية عديدة بأن البلاد لا تحتاج إلى الأحزاب أو الجمعيات أصلاً. لم يصرّح الرئيس قيس سعيّد بموقف مناهض للأحزاب أو الجمعيات، ولكن إشارات عديدة وردت عنه تفيد ضمنياً بأن الأجسام الوسيطة زائدة دودية في العمل السياسي، وهي حقيقة تتهاوى حالياً. لم يكن أحدٌ يعتقد أن يلوذ الاتحاد العام التونسي للشغل بالصمت. يقول أمينه العام الحالي، نور الدين الطبوبي، من دون أدنى خجل: "الصمت نضال أيضاً"، وهو الذي ظل سنوات عديدة يدلي في اليوم الواحد بعشرات التصريحات النارية. كان الاتحاد هو الحاكم بأمره حقيقة، خصوصاً بعد الثورة، وكان أنصاره يردّدون تلك الأهزوجة العبثية "الاتحاد الاتحاد أكبر قوة في البلاد". وها هو يختفي تقريباً من المشهد الإعلامي، وتُسحب منه كل الامتيازات التي حصل عليها حتى قبل الثورة ذاتها، ومنها التفرّغ النقابي، وهذه بدعة تونسية خالصة تتيح للنقابيين عدم ممارسة نشاطهم المهني الأصلي، والتفرّغ لإدارة نقاباتهم، مع تكفل الدولة بتسديد أجورهم.
يحتاج العجز السياسي إلى كثير من المعرفة لتفسير غموض ما يحدُث حالياً في البلاد
يتشفّى بعض في بعض بما ناله من إجراءات التضييق هذه، وحتى بعض الانتهاكات: الإيقاف، المحاكمات، السجن. إنها حرب الكل ضد الكل التي تشنّها السلطات الحالية بكثير من الذكاء. يتشفّى اليسار في الإسلاميين بما نالهم في العهد السعيد، يتشفى الإسلاميون في الاتحاد العام للشغل بما ناله من تحجيم، يتشفّى المجتمع السياسي في المجتمع المدني الذي أفسد عليه حكم البلاد بدعوى وجوب الحكم التشاركي معه. ها هو البلدوزر قادم يبدّد كل ثوابت المشهد السياسي القادم. لا ندري الطريق الذي يسويه البلدوزر المارد، ولكن نتأكد أننا نسير ونمضي إلى نقطة ما، حين نرى آثار ما سُوِّي: منجزات الدولة الوطنية، الثقافة السياسية التي ألفناها، وشكلت قواعد العمل السياسي: علوية الدستور، الإرادة العامة، المشاركة السياسية، العمل الحزبي، الجمعيات، أهمية نسب المشاركة في الانتخابات، الفصل بين السلطات، إلخ. لا معنى لكل ما راكمناه ونحن نراه يتفكّك، ولا قدرة لنا على ردّ أمر مقضي. يذهب أحد المختصين في الشأن السياسي من الأكاديميين الفرنسيين المرموقين، واسمه ميشا كامو، إلى نعت كل هذه الأوضاع بأنها تتسم بالعجز السياسي العام للمعارضة، وهو ليس مجرّد إخفاق ناجم عن تقديرات خاطئة في مواجهة السلطة، بل عجز يكاد يكون "جينياً" للنخب المعارضة.
نشأت المعارضة من ثقافة سياسية دفينة تكرّس الانقسامية، وتبدّد المشترك، مدمنة ألعاب صفرية. يحفر الرجل بعيداً عن الثنائيات التقليدية في فهم المشهد السياسي المألوفة: إسلام/ علمانية، دولة / مجتمع، ليقول إن الأمر أعمق حين يلامس نواة صلبة من التسلّط التي تراكمت في مجرى تاريخنا السياسي العميق.
الأشكال التي يبتكرها في تونس النظام السياسي الحالي في تسلطيته الراهنة ستجعل إمكانات المعارضة ضعيفة، خصوصاً ونحن نرى تصحّراً سياسياً يترسّخ تدريجياً، ولا مثيل له، واستقالة جماعية من الشأن العام. النسب الضعيفة للانتخابات، أخيراً، التي سبقتها، قد تفرح المعارضة للبرهنة على لا شعبية النظام، غير أن الفرار الكبير من المشاركة سينعكس لا محالة على الاهتمام بالسياسة عموماً، باعتبارها شأناً لا يعني الناس، بل إنها مدعاة للقرف. يحتاج العجز السياسي إلى كثير من المعرفة لتفسير غموض ما يحدُث حالياً في البلاد.