الطريق إلى دمشق الجديدة

10 يناير 2025

فتى سوري محفلاً بسقوط النظام في ساحة الأمويين في دمشق (3/1/2025 Getty)

+ الخط -

لم أكن يوماً من محبي زيارة دمشق في عهد حكم الأسديْن، رغم ما أحمله من مشاعر لهذه الحاضرة العربية الكبيرة. خلال السنوات السابقة للثورة السورية، اضطرّني العمل الصحافي إلى زيارة سورية مرّات قليلة، وفي كل مرة كان التوتر سيد الموقف طوال الرحلة من بيروت إلى الحدود السورية.

كان الدخول إلى مركز الأمن السوري، في ذلك الوقت، رعباً للسوريين واللبنانيين وكثيرين من الناشطين أو الصحافيين العرب الذين لا يدرون أي كلمة كتبوها أو قالوها استفزّت النظام المستبد، وباتوا إثرها مطلوبين لأحد الأجهزة الأمنية الكثيرة في سورية.

لحظات الوقوف أمام موظف الأمن في المركز الحدودي السوري حينها تمرّ كأنها ساعات، وربما لا يمكنك تمالك نفسك من التعرّق نتيجة القلق مما قد يظهر لهذا الفرد على جهاز الكمبيوتر الذي يعمل عليه، وخصوصاً حين يرفع عينيه عن الشاشة وينظر إليك. ولا يمكن تخيّل كم الارتياح الذي يمكن أن تشعر به حين يسلمك الموظف جواز سفرك أو بطاقة هويتك لتتابع رحلتك بسلام، مؤقتاً. هذا من دون الحديث عن الصلف والجلافة اللذيْن كان يتعاطى بهما معظم الموظفين الأمنيين في كل المراكز السورية، إضافة إلى طلب الرشى بشكل فجٍّ لا يمكنك تجاهله.

الرحلة هذه المرة إلى دمشق، بعد سقوط "الأبد"، كانت مختلفة. القلق الوحيد كان من عدم القدرة على الدخول بفعل الإجراءات التي فرضتها السلطات الجديدة على اللبنانيين، ضمن مبدأ المعاملة بالمثل، حتى وإن كانوا حملة جوازات أخرى غير لبنانية. وبالفعل، كانت هناك بعض العراقيل، غير أن عمل الموظفين الجدد في المركز الأمني، وغالبيتهم من المدنيين، على تخطّيها كان في قمة الدماثة واللطف والاحترام، وكأن دروساً موحّدة أعطيت للجميع في كيفية التعاطي مع المواطنين والزائرين.

كانت هذه المفاجأة الأولى في سورية الجديدة، والتي خلا الطريق إلى عاصمتها من حواجز التفتيش التي كانت تفرض إتاواتٍ على المركبات العابرة إلى المحافظات السورية. حواجز معالمها حاضرة على طول الطريق بين معبر جديدة يابوس الحدودي ودمشق، وكل منها تابع لإحدى الفرق العسكرية، وأهمها الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد. كان الحاجز يتميز عن غيره بوجود جهاز مسح للمركبات، وهو أمر غير متوفر على المعبر الرسمي التابع للدولة السورية. لا يزال الجهاز موجوداً على الطريق، وإن طاوله التكسير، شاهداً على دويلات آل الأسد التي أنشأوها على أنقاض الدولة السورية.

دقائق بعد تخطي أنقاض الحواجز، تطل عليك دمشق من بعيد، ويلقي قاسيونها عليك التحية الأولى قبل أن تدخل إلى المدينة الخارجة حديثاً من حكم استبدادي دام أكثر من خمسين عاماً.

منذ الزيارة الأخيرة إلى دمشق، في عام 2009، لم ألحظ تغيراً في معالم المدينة ولا في طبيعة حياتها الاجتماعية، لكن ملامح من البهجة كانت في ملامح معظم أبنائها، رغم الأوضاع الاقتصادية المتردّية في البلاد، والتي دفعت سوريين كثيرين إلى حافّة البؤس.

بات الحديث في السياسي اليوم شأناً عاماً للسوريين الذين كانوا محرومين من التنفس والتعبير. النقاشات سيدة الموقف في المقاهي والمطاعم عن شكل الدولة، وتوجهات السلطات الحاكمة اليوم من دون خوف من تقارير المخابرات. انتقادات كثيرة ممكن أن تسمعها لبعض الإجراءات التي تقوم بها السلطات حالياً، في المقابل، هناك من يدافع ويطلب منحها مزيداً من الوقت. حالة سياسية حيوية ما كنت ترصدها في سورية القديمة، بانتظار أن تتحوّل إلى هيئات وأحزاب تساهم في تشكيل المشهد السياسي السوري الجديد.

لا شك أن هناك قلقاً من الآتي، وأي مسار قد تسلكه الأحداث، وأي تدخلات أو ممارسات تعقد المرحلة المقبلة، لكن الأكيد أن البهجة بالخلاص من النظام السابق هي الطاغية.

حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".