الطريق إلى الحرية
هناك ترابط حتمي بين مهمة التصدّي للاحتلال، ومخططات صفقة القرن التصفوية ونظام الأبرتهايد الإسرائيلي، وضرورة معالجة الأزمة السياسية الفلسطينية الداخلية. كما أن هناك ترابطا وثيقا بين المؤامرة الإسرائيلية المدعومة أميركيا وما يمارسه حكام إسرائيل من ضغوط، وجهود لعرقلة حل المشكلات الداخلية الفلسطينية، باعتبار استمرارها من أهم أسباب ضعف الجانب الفلسطيني في الصراع المحتدم. وأبرز معالم الأزمة الداخلية، هي حالة الانقسام، والتي تطورت من اختلاف في الرؤى والبرامج السياسية وأشكال الكفاح إلى حالة انقسام عميق، تُوج بصراع على السلطة وانقسامها إلى سلطتين، مع أن كلتيهما تعيشان تحت الاحتلال بشكل أو بآخر، غير أن الانقسام ليس سوى أحد مظاهر الأزمة الداخلية.
ومن المظاهر الأخرى المهمة، تدهور البنيان السياسي الداخلي، واختفاء ما تم تحقيقه من مؤسسات ديمقراطية، وصولا إلى تلاشي مبدأ الفصل بين السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، بغياب الانتخابات منذ عام 2006، وحل المجلس التشريعي، وفقدان السلطة القضائية استقلاليتها، مع تكريس منظومة حكم الحزب الواحد.
هناك ترابط وثيق بين المؤامرة الإسرائيلية المدعومة أميركيا وما يمارسه حكام إسرائيل من ضغوط، وجهود لعرقلة حل المشكلات الداخلية الفلسطينية
المظهر الثالث بالغ الأهمية، عدم التوافق على استراتيجية وطنية موحدة، تتجاوز ما فشل في الماضي، بما في ذلك اتفاق أوسلو، والمراهنة على حل وسط مع الحركة الصهيونية عبر المفاوضات، أو الاستمرار في بناء الآمال على تدخلات دولية، كالمؤتمر الدولي وغيره، في ظل تقاعس المجتمع الدولي عن فرض أي ضغوط حقيقية على إسرائيل. ولا يمكن للاستراتيجية المطلوبة أن تنجح، ما لم تُبنَ على رؤية خلاقة جديدة، تأخذ في الاعتبار كل ما جرى من تغيراتٍ على أرض فلسطين وفي المنطقة، وما لم تكن حاسمة في كفاحيتها، وفي رفضها كل مشاريع الاستسلام والتصفية، وما لم تتحلّ بالقدرة على بعث الأمل في نفوس الشعب الفلسطيني، وخصوصا لدى الأجيال الشابة.
لا يمكن تغيير ميزان القوى لصالح الشعب الفلسطيني، وإسقاط صفقة القرن التي تمثل المشروع الصهيوني المتواصل، بغض النظر عن نجاح ترامب أو بايدن في الانتخابات الأميركية المرتقبة، من دون بناء جهة وطنية فلسطينية موحدة، عبر تشكيل قيادة وطنية موحدة، تكون مسؤولة عن القرارات الكفاحية والسياسية. ولكن الجبهة الوطنية لن تكتسب القوة المطلوبة، ما لم تتحد مع الشعب الفلسطيني نفسه، بدل أن تقتصر على توافقات القوى الفلسطينية المتنافسة. وهذه الوحدة مع الشعب لن تتحقق ما لم يتم إجراء انتخابات ديمقراطية حرّة، ليس فقط للمجلس التشريعي الفلسطيني والرئاسة، بل والمجلس الوطني الفلسطيني نفسه. ولن يؤخذ أمر الانتخابات على محمل الجد، ما لم تُشكل حكومة وحدة وطنية مؤقتة، تباشر فورا في إنهاء الانقسام، ومعالجة آثاره، وتزيل أي شكلٍ للتمييز بين الفلسطينيين، وتعد لانتخابات ديمقراطية حقيقية، يمكن أن تتحول كذلك إلى معركة مقاومة شعبية ضد الاحتلال الذي سيحاول منع إجرائها بالتأكيد، خصوصا في القدس، وربما في مناطق أخرى.
يجب بناء الوعي الجامع بما يسببه نظام الأبرتهايد الإسرائيلي والتعصب اليهودي من أضرار بحياة الفلسطينيين ومصالحهم
وفي هذا الإطار، لا بد من مراجعة نقدية وخلاقة، لتجارب المقاومة الشعبية التي بدأت بزخم كبير، رأينا مظاهره في قرى المقاومة، وسفن كسر الحصار على غزة، وهبّة القدس ضد بوابات نتنياهو، ومسيرات العودة وكسر الحصار، ثم ضعفت بفعل إصرار بعض الأطراف على احتوائها في أطر رسمية. ولا بد من أن تقود هذه المراجعة إلى تفعيل المقاومة دفاعا عن مصالح الناس الملموسة، المتضرّرة من مصادرة الأراضي، وسلب المياه، والحرمان من الحقوق في الخدمات الصحية والتعليمية اللائقة، ومن تفاقم الكساد الاقتصادي والبطالة الناجمة عن الحصار والتجزئة التي يفرضها نظام الأبرتهايد الإسرائيلي.
ولعل أهم المهمات التي يجب أن تتولاها القوى السياسية، بما في ذلك الحركات المجتمعية الناشئة، بناء الوعي الجامع بما يسببه نظام الأبرتهايد الإسرائيلي والتعصب اليهودي من أضرار بحياة الفلسطينيين ومصالحهم، وتعرية الأكاذيب حول التحسين الاقتصادي الذي يمكن أن تجلبه عبودية صفقة القرن. ولكي تنجح حركات المقاومة الشعبية في تغيير ميزان القوى، فإنها ملزمة بتصعيد حركة المقاطعة، وفرض العقوبات على المنظومة الإسرائيلية، وحركة المقاطعة الشعبية هي الرد الأمثل على عمليات التطبيع الجارية، والتي تصاعدت لتصبح دوله شريكة لإسرائيل في خرق القانون الدولي، ولم يتورّع بعض أنصارها على شن هجمات بذيئة ضد الشعب الفلسطيني، ضحية الاحتلال، وضحية التطهير العرقي الذي مارسته الحركة الصهيونية.
حركة المقاطعة الشعبية الرد الأمثل على عمليات التطبيع التي تصاعدت لتصبح دوله شريكة لإسرائيل في خرق القانون الدولي
وهناك عاملان حاسمان في تقرير مستقبل فلسطين: بقاء الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، على الرغم من كل التنكيل والتضيق والخنق السياسي والاقتصادي، فهذا الوجود البشري الذي يفوق بقليل الوجود اليهودي الإسرائيلي على أرض فلسطين التاريخية هو الفشل الأكبر للحركة الصهيونية، وهو العقبة الكبرى التي تقف أمامها في محاولاتها تهويد كل فلسطين. أما العامل الحاسم الثاني فهو جعل هذا الوجود البشري مقاوما، وإفشال مخطط صفقة القرن بجعله وجودا مستكينا، محبطا، ويائسا من الإيمان بالقدرة على التغيير.
قد تنجح إسرائيل في بناء مزيد من المستعمرات الاستيطانية، وربما ينجح الابتزاز والضغوط الأميركية والإغراءات الإسرائيلية الخادعة في جر أنظمة جديدة إلى التطبيع مع إسرائيل، وما من شك أن القمع والتنكيل ضد الشعب الفلسطيني سيستمر، وأن عمليات تخريب جهود إنهاء الانقسام وتوحيد الصف الوطني ستتواصل. لكن ذلك كله لن يحسم الصراع ما دام هناك إصرار شعبي فلسطيني على رفض عبودية الاحتلال وذله، والتمييز العنصري. والإصرار وحده لن يغير الواقع، ما لم يترجم إلى أفعال ملموسة تخرج الفلسطينيين من نفق المراهنات الخاطئة، وتعالج الأزمة السياسية الداخلية، بتبنّي رؤية استراتيجية كفاحية جديدة، تؤمن بأن الشعب الفلسطيني هو صانع التغيير الأول.