الطرق المضحكة للموت
يُنظر إلى الجوكر واحدا من الأشرار الأكثر شهرة، لهذا كان من الطبيعي أن يأتي أولا على قائمة مائة أكبر أشرار التاريخ، بارتكاب الجرائم بأسلحة كوميدية، أو بأساليب مضحكة. وأخطر أسلحته السّلاح الغازي "سمّ الجوكر"، الذي يُضحك المصاب حتى الموت. لعلّه أمر غير غريب على شخصية سادية، تستمتع بالعنف لأجل العنف. تسرق وتقتل من أجل متعتها الخاصّة، لا من أجل ربح مادي. لكن الضّحك المرافق للحظة الموت أو ما قبله أو بعد النّجاة منه، للأشخاص موضع الموت والضّحك معاً، شيءٌ لا يستوعبه بعضنا، رغم أننا سمعنا عن نماذج لقدوم الضّحك من حيث لا يحتسب الضاحك. طبعا نتحدّث عن شخصية متخيلة، لكنها فاقت دراكولا وفرانكشتاين أهمية، بأنها غير مرتبطة بفترة زمنية أو بحيز جغرافي.
يروي الألباني غازميند كابلاني في كتابه "مفكرة عابر حدود"، الذي ترجمه أحمد اللويزي، كيف يُبتلى الذين يجتازون الحدود بطريقة غير قانونية بعاداتٍ غريبة، إحداها الضّحك الكثير. فيميل المهاجرون عادة إلى القفشات والمزاح، كلّما اجتازوا بنجاح عملية تفتيش دقيقة. ربما يستثير ضحكهم الخوف من الموت، الذي يقترب منهم باستمرار، ويُداوم على مرافقتهم. كأنهم بالضّحك يهادنون الموت ويحاولون إغواءه، فالضّحك أفضل الأقنعة لعابري الحدود. كأنهم يقولون له: "لا حيّز بيننا للموتى".
يحكي السجين السياسي الأشهر في المغرب، أحمد المرزوقي، بدوره، عن تجربته القاسية في سجن تزممارت سيّئ السّمعة. خلال السنوات العشرين التي قضاها ورفاقه في هذا الجحيم، أنهم كانوا يضحكون ساعات، حين يتأمّلون أوضاعهم في زنازين ضيّقة ومظلمة وباردة، بأسمال قديمة، وبالكاد يأكلون شيئاً. سائلين: لم كل هذه الشّدة؟ لم يبذلون كل هذا الجهد للقضاء علينا؟ هل نحن خطيرون بالفعل إلى هذه الدرجة؟ ثم يعودون إلى القهقهة، فتعرف الجدران المعتمة الضّحك للحظات، بدل الصّراخ المؤلم لمريض أو محتضر. فجلّ سجناء تزممارت انتهى بهم الأمر إلى الموت جوعاً أو برداً أو مرضاً.
ولعل عدوى الضّحك بين البشر أقوى من عدوى العطاس والسّعال. يكفي أن يضحك أحدهم، وإن كان في وضع سيّئ، حتى يشاركه الكثيرون، حتى وهم غير مستحسنين ذلك. الحقيقة أن الذين يضحكون قبل الموت، أو بعد النّجاة منه، يقومون بأفضل ما يمكن فعله ليموت المرء سعيداً قدر الإمكان. ففوائد الضّحك كثيرة، في الموت والحياة. لكونه يساعد في تدفق مزيد من الأكسجين إلى الدم، ما يرفع طاقة الفرد، ويحمي القلب من الانكسار السهل. كما يقولون إنه يعالج التوترين، الجسدي والنفسي، ويقوّي جهاز المناعة، والأهم أنه يحرّر من الخجل والخوف.
إذن، الجوكر ذو الحسّ الفكاهي السادي كان يُسدي ضحاياه معروفاً، بقتلهم مبتسمين وإن لم يضحكوا. وكل مرّة يوشك على إنهاء حياة أحد ضحاياه، يحكي له قصة عن سرّ الابتسامة القبيحة على وجهه. مرّة طعن أبوه أمَّه، ثم رسم على وجه ابنه ابتسامة المهرّج صارخاً: لم هذه الجدّية؟ مرّة تشوهت زوجته في حادث، وليخفف عنها رسم ابتسامة دائمة على وجهه، لتضحك وليشاركها التشوّه، لكنها تركته. كل رحلة يقود فيها ضحاياه إلى الموت، كان الجوكر يتفنّن في اختراع مصدر مختلف لتشوّهه، إذا عنّ له ذلك، ليشغل القتلى عن مصيبة الموت. لكنّه لم يضحكهم، وتلك كانت سخريته: المهرّج الذي يروي نكتا غير مضحكة، قاتل المتعة وجالب الخراب.
في اللغة العربية، يقابلنا في مسمّيات درجات الضّحك ما يجعلنا نضحك بمفعول رجعي. فهي تبدأ بالتَبَسُّم، ثم الإهْلاس، والافْتِرَار، الانْكِلال، الكَتْكَتَة، القَهقهة، القرقرة، الكِرْكِرَة، الاسْتِغراب، الطَّخْطخَة، الإِهْزاقُ، الزَّهْزَقة... ما يعني أنّنا الذين كنا نكتب "فقهقهَ قائلا..."، على أساس أن القهقهة أقصى درجات الضّحك، كنّا غُفلاً، فهي ليست سوى مرحلة وسطى منه. والله وحده يعلم ماذا تعني الزّهزقة. ربما تعني عندما "يَزْهَق لك شيء"، بالدارجة المغربية، ومعناه أن تختنق بشيء دخل حنجرتك. أو المقصود منه أن "تزهق" روحك من الضّحك، فيُقال في نعيك: زهقت روح الراحل(ة) من الضّحك.
أظن أن معظمنا سمع عن الذين ماتوا من الضّحك بين جمهور مسرحيات عادل إمام، فالجسم البشري مصمّم إلى درجة معينة من الانفجار الشّعوري، فليس الحزن الشُّعور الوحيد الذي يُميت، بل الضّحك أيضاً. الخلاصة: لا تمزحوا مع ثقال الدّم، فتقعون في الطخطخة المؤدّية إلى الإزهاق الشّامل.