الصين من المصالحة إلى القضية
تعدّ الصين أكبر مستوردٍ للنفط في العالم، حيث تجاوز استيرادها %70 من احتياجاتها في آخر إحصائية. ومع اتساع اقتصادها بشكل هائل، تجد الصين نفسها بحاجةٍ لابتلاع مزيد من كميات النفط لإبقاء مسنّنات عجلة الاقتصاد في حالة دوران، وبعد الركود الذي أصاب اقتصاد الكرة الأرضية كله في فترة كورونا، ارتفع الجوع الصيني لنفط العالم، محاولا تعويض ما فاته في سنوات التوقف. رافق الصعود الصيني تغيرٌ في مزاج الاستيراد لديها مواكبةً لما يحدُث في العالم، فقد استبدلت الصين مصادرها النفطية بشكل متكرّر إلى أن استقرّت في الفترة الماضية على الشرق الأوسط والخليج العربي بشكل خاص، فقد انخفضت نسب الاستيراد من روسيا والبرازيل وأستراليا وبعض دول أوروبا الغربية، مقابل تصاعد لصالح السعودية ودول خليجية، كما نالت إيران نصيبها أيضا بالتحايل على العقوبات المفروضة عليها، فوجد النفط الإيراني طريقه إلى المصانع الصينية، ووجد الزعيم الصيني شي جين بينغ نفسه وسط المنطقة مُحاطا بزعمائها في محادثاتٍ عن الطاقة وضمان الأمن، ما يعني توثيق الصلات وتأمين خطوط الإمداد وإدامتها لاستمرار التدفق. ويشكل المشروع الصيني العملاق "الحزام والطريق" نواةً اقتصادية مشتركة تجد كل دول المنطقة والصين مصلحةً في المشاركة فيها، والانغماس الاقتصادي الصيني حتى الأذنين في الشرق الأوسط يتطلّب بديهيا انغماسا سياسيا، وهو ما باشرت فيه الصين فورا بمجرّد أن تصاعد اعتمادها على نفط المنطقة، حتى تجاوز النفط السعودي عتبة %15 من كامل ما تستورده الصين من الخارج.
تبدو الحاجة الصينية إلى نفط المنطقة وراء الصفقة السعودية الإيرانية، وقد تكون الصين ضغطت بما لديها من قوّة الزبون الدائم على البلدين، للوصول إلى الشكل السياسي الحالي الذي بدأ ينظم سياستهما، وهو افتتاح سفارة إيرانية في الرياض بعد قطيعة طويلة، ويناسب هذا الوئام المشاريع الصينية لتتقدم بهدوء ونجاح، خصوصا بعد انحسار أميركي طوعي وانحسار روسي إجباري، أوجدا للصين، بما لديها من فائض قوى، فرصة ذهبية لملء فراغٍ من هذا النوع، فوفّقت بين بلدين كالسعودية وإيران. ومن الطبيعي أيضا، ولكون الصين أصبحت تمتلك هذا الحضور الطاغي، أن تمدّ يدها إلى مشكلة المنطقة المزمنة، وهي القضية الفلسطينية، وقد باشرت فورا بفتح هذا الملفّ، فدعت الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس. وفي ظل جفوة صينية إسرائيلية، تبدو المقاربة الصينية لملفّ الصراع ذات توجه فلسطيني، خصوصا أن الدعوة اقتصرت على الجانب الفلسطيني، ولم يسبقها أي لقاء مع إسرائيليين. كل ما لدى الصين لتقوم بما قامت به وما تخطّط له اقتصادي خالص، يأخذ شكله السياسي تحصيلا لما ينتج عن النشاط الاقتصادي، والمساران متقاربان، وكل مسار يكمل الآخر.
لم يبدُ على الصين ذلك الشغف والانهماك في ملفات المنطقة في الماضي، ولم يبدُ هذا الشغف حاليا، فكل ما ترغب الصين بتحقيقه هو تسجيل الحضور عبر هذه المحطّات المؤثرة، وهي تدرك أن جهودها ذات تأثير موضعي، وليس لها ذلك العُمق الذي يمكنه الاستمرار ليُنتج حالة دائمة، فالعلاقات الإيرانية والسعودية كانت تراوح على الدوام بين الأخذ والردّ ومحاولات التفوّق، منذ أيام الشاه، ولم تتغيّر مرتكزات الطرفين التي تنطلق منها سياساتهما بعضهما تجاه بعض. ولم تباشر السعودية بعد بفتح سفارة لها في طهران، رغم أن السفارة الإيرانية في الرياض قد افتُتحت. وهذا الانطباع ينسحب على القضية الفلسطينية التي تتقارب معها الصين بالشكل السطحي نفسه، ولم تتجاوز دعوة الرئيس عبّاس وإطلاق المبادرات أو التصريحات بما يوحي بالاهتمام، في حين أن الهم الصيني الأول في المنطقة صيني خالص، ومحاولة لحفظ المصالح أطول فترة ممكنة، وهي قادرة على النجاح في ذلك، ولكن لمدّة محدودة قد لا تتجاوز المسافة الزمنية قبل ظهور رئيس أميركي لديه رغبة بالعودة إلى الشرق الأوسط.