الصين: إيران وتركيا وإسرائيل قبل العرب

18 يناير 2023

شي جين بينغ يتوسّط قادة وكبار مسؤولي دول الخليج في الرياض (9/12/2022/ الأناضول)

+ الخط -

حملت زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في التاسع من الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول) رسالة إيجابية إلى الدول العربية، إذ أكّد فيها دعمه القضية الفلسطينية، ووقع اتفاقيات استثمار في مشاريع اقتصادية ونفطية بمليارات الدولارات. على إثر ذلك، نُشرت دراسات ومقالات أكّدت، في مجملها، أهمية المنطقة العربية في استراتيجية دولة صاعدة منافسة وبديلة للولايات المتحدة. واتسم معظم هذه الدراسات بالتسرّع وخلط التمنيات والرغبات بالواقع. ذلك أن النقطة الرئيسية التي تغيب في النقاش العربي هي السؤال عن موقع العرب الفعلي في الاستراتيجية الصينية الكلية تجاه الشرق الأوسط. وللإجابة عن هذا السؤال، من المهم المقارنة بين استراتيجية الصين تجاه الدول العربية بوصفها كتلة واحدة، وتجاه كل من إسرائيل وتركيا وإيران كل على حدة.

الصين والعرب

يتمحور النقاش العربي إزاء الصين حول ثلاث نقاط رئيسية، لإبراز مركزية العرب في الاستراتيجية الصينية، وهي المبادئ المُعلنة التي تحدد سياسة الصين تجاه الدول العربية، والتبادل التجاري مع المنطقة، والنفط. المبادئ المُعلنة مُتضمّنة في وثيقة أعلنتها الصين في يناير/ كانون الثاني 2016 تحت عنوان "سياسة الصين تجاه الدول العربية". وفرضت هذه الوثيقة علينا أن ندرس سياساتها تجاه المنطقة ككتلة واحدة، إذ لا تمتلك الصين استراتيجية أو سياسة منفصلة تجاه كل دولة من دول المنطقة منفردة. والملفت للنظر هنا مبالغة الكُتاب العرب في تقدير أهمية المنطقة للصين بسبب هذه الوثيقة، لكن النظر في نصوصها بتروٍّ يقودنا إلى: أولًا، لم تذكُر الصين إلا ثلاث دول عربية صغيرة أو ضعيفة مقارنة بباقي الدول الأخرى، فقد أشارت إلى فلسطين في سياق دعم الصين عملية السلام في الشرق الأوسط. وجاء الأردن في سياق التعاون الأكاديمي لإنشاء جامعة صينية أردنية. وجاء الصومال في سياق تأكيد الصين دورها الدولي دولة مسؤولة في مكافحة القرصنة قبالة خليج عدن والسواحل الصومالية. وفي الوثيقة أيضًا إشارات إلى منطقة الخليج العربي مرتبطة بامتلاكها النفط حصرًا.

لا تقع أيّ من دول المنطقة ضمن أول عشرين دولة في قائمة شركاء الصين التجاريين على مستوى العالم

ثانيًا، الأقسام الأربعة للوثيقة تكرر ما جاء في المقدمة، ومعظمها كلام عام من دون تفاصيل حقيقية أو توضيح لاستراتيجية محدّدة. وهناك وفرة من المصطلحات الفضفاضة، مثل التعاون، والتنمية المشتركة، العلاقات التاريخية الودّية، الصداقة، الأخوّة، الاحترام المتبادل، وعدم التدخل، وعدم الاعتداء، والتعايش السلمي. وفي سياق هذه المصطلحات، لم تقدّم الصين ما هو استثنائي للعرب، فهذا النص نمط سائد ومكرّر في خطاباتها لدول الآسيان، وآسيا الوسطى، وغيرها من الأقاليم أو المنظمات التي تقيم الصين معها شراكاتٍ في العالم. النقطة الثالثة، والمهمة هنا، الإشارة إلى أهمية المنطقة العربية في طريق الحرير، والتي تتضمّن سوء فهم عميق، حيث يتبارى معلقون عرب في تضخيم هذه الأهمية غير الموجودة أصلا. ببساطة بالغة، العرب غير موجودين على خريطة البنى التحتية لطريق الحرير، وأي نظرة سريعة على خريطة "طريق الحرير" في العالم تُظهر، بشكل جلي، استثناء الصين المنطقة العربية من المشروع. يلتفّ طريق الحرير البرّي والبحري حول المنطقة العربية، لكنه لا يعبر فيها، كما توضح الخريطة. وهذا يُفسر رغبة الصين في أن تنأى بنفسها عن منطقةٍ مليئةٍ بالصراعات، خصوصا بعد خساراتها الكبيرة في ليبيا.

الصورة
الخريطة

وفي ما يتعلق بالعلاقات التجارية بين الصين والمنطقة العربية، لا تقع أيٌّ من دول المنطقة ضمن أول عشرين دولة في قائمة شركاء الصين التجاريين على مستوى العالم، حسب إحصائيات عام 2021. وأن تكون الصين الشريك الأول لـ 12 دولة في الإقليم يعطي صورة عن أهمية الصين لهذه الدول من جهة، والنمو الهائل لاقتصاد دولة صاعدة من جهة أخرى. وأخيرًا النفط، وهو العامل الموضوعي الوحيد في النقاشات العربية، فالصين هي المستورد الأول لنفط الخليج، وخصوصا من السعودية، ويستخدم بعضهم هذا المؤشّر دليلا على تراجع الهيمنة الأميركية لصالح شريك اقتصادي جديد في المنطقة، الصين. ولكن تغيب أيضًا عند نقاش هذا العامل فكرة أساسية، أن القوى العظمى، حتى ولو اعتمدت، في بدايات صعودها، بشكل كبير، على مصدر رئيسي في مجال النفط، فإن هذه الاستراتيجية مؤقتة، خصوصا إن كنّا نتحدّث عن مورد للطاقة في بيئة أمنية مضطربة. رأينا كيف اعتمدت الولايات المتحدة عندما بدأ نفوذها يتعزّز في سبعينيات القرن الماضي في الشرق الأوسط، على نفط الخليج، كما تفعل الصين اليوم بشكل هائل. ولكن منذ تولي جورج بوش الابن الرئاسة، تكثف النقاش الأميركي في مسألة أمن الطاقة، وتسريع عدم الاعتماد على الخارج، والبحث عن بدائل عن النفط. وتسارع البحث العلمي والتكنولوجي في هذا الاتجاه، وصولًا إلى ما أُعلن عنه حديثًا علماء أميركيون عن اختراع تكنولوجيا جديدة في مجال الاندماج النووي، تكون مصدرا بديلا للطاقة الأحفورية. وبذلك، لا يمكن تفسير تراجع الاستيراد الأميركي من الخليج العربي أنه تراجع لهيمنتها بقدر ما هو تعزيز لقوتها الذاتية بتكلفة أقلّ، وتنويع مصادر مواردها، واعتمادها على ذاتها، ما يعطيها شعورا أكبر بالاستقرار.

أعداء لكن شركاء: إيران وتركيا وإسرائيل

يعيش الشرق الأوسط في مرحلة مضطربة، ليس بسبب سياسات القوى العظمى فحسب، بل أيضًا بسبب وجود ثلاثة مشاريع توسعية لكل من إيران وتركيا وإسرائيل. وهنا، يكون السؤال: ما هي استراتيجية الصين في الشرق الأوسط، أي تجاه الدول العربية والدول التوسّعية الثلاث؟ يتفق أغلب المختصين في الشأن الصيني أن للشرق الأوسط أهمية في الصعود الصيني لعدة عوامل: أمن الطاقة، الموقع الجغرافي، منافسة الولايات المتحدة، سوق كبير للسلاح والبضائع. أما استراتيجيتها في الإقليم تقوم على: الحياد، واحترام سيادة الدول، التركيز على الشراكات لا التحالفات. وهذا كله صحيح، ويعطي قاعدة أساسية لفهم استراتيجية الصين تجاه الإقليم، ولكنه يبقى مبهمًا في ظل عدم إجراء مقارنات بين دوله. لهذا من المفيد نقاش مجموعة من العوامل الموضوعية التي تكشف هامشية المنطقة العربية للصين مقارنة مع الدول الثلاث الإقليمية الأخرى، والتي تثبت، بشكل أو بآخر، أن سياسات الصين في الإقليم تعزّز من قوة الدول التوسعية الثلاث على حساب المنطقة العربية.

أولًا، مراكز طريق الحرير البحري والبري. إيران وتركيا وإسرائيل هي الدول المحورية الوحيدة لطريق الحرير في الشرق الأوسط، إذ تعتبر إيران المدخل الصيني الغربي للمنطقة، وممرًا بريًا نحو تركيا التي توصلها برًا وبحرًا إلى أوروبا. أما إسرائيل فهي تمتلك أهم ميناء في الإقليم بالنسبة للصين في المنطقة، وهو ميناء حيفا، وذهبت الصين إلى أبعد من ذلك، بقبول مقترح نتنياهو عام 2015، بالاستثمار في ميناء إسرائيلي على البحر الأحمر يكون بديلا مستقبليا لقناة السويس. ويظهر هذا القبول رغبة الصين في تجنّب أهم ممرّ مائي في تاريخ المنطقة لصالح إسرائيل. وفي هذا السياق، أشارت دراسات عربية أكاديمية إلى أن الصين وقّعت اتفاقيات مع بعض الدول العربية في إطار طريق الحرير على سبيل المثال، مشروع سكك الحديد في عُمان، وميناء الدقم، ومشروع الطاقة الشمسية في مصر وغيرها. وفي أثناء البحث في الاتفاقيات الرسمية لهذه المشاريع المنشورة على موقع البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية الصيني، لم أجد كلمة واحدة تفيد بأن الاستثمار الصيني في هذه المشاريع جاء في إطار طريق الحرير.

يعيش الشرق الأوسط في مرحلة مضطربة، ليس بسبب سياسات القوى العظمى فحسب، بل بسبب وجود ثلاثة مشاريع توسعية لكل من إيران وتركيا وإسرائيل

ثانيًا، أعضاء المنظمات الصينية الدولية. بداية، منظمة شنغهاي للتعاون، والتي أنشأتها الصين حصرا لتعزيز العلاقات الاقتصادية والأمنية مع دول آسيا الوسطى. وفي سابقة، قبلت الصين دولتين من الشرق الأوسط في المنظمة، تركيا شريكا في الحوار، وإيران عضوا مراقبا. أما منظمة البريكس، فقد دعا شي جين بينغ تركيا إلى الانضمام إلى المنظمة في ما أصبح يعرف باسم "بريكس بلس". وأخيرًا، البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، قبلت الصين عضوية الدول الثلاث أعضاء مؤسّسين له، أما الدول العربية (ولأنها كما أشير سابقًا، فرضت علينا دراسة الدول العربية كتلة واحدة) فقد انضم للبنك فقط سبع دول عربية: البحرين، والعراق، والأردن، وعُمان، وقطر، والسعودية، والإمارات. تُشير هذه السياسة إلى أن مصلحة الصين في الإقليم هي إقامة شراكات اقتصادية مع الدول الأكثر استقرارا والتي تمتلك الاقتصادات الأكبر.

ولكي نكون منصفين، لا يمكن لأغلب الدول العربية أن تقدّم للصين ما تحتاجه من شراكات اقتصادية قوية، خصوصا بعد الدمار الذي حلّ بها بعد فشل الربيع العربي وعوامل أخرى كالأنظمة الديكتاتورية والفساد. أما العامل الثالث، وهو مرتبط بالسابق، من حيث الاعتماد بشكل رئيسي على المناطق الأكثر استقرارا، فقد وقّعت الصين اتفاقات طويلة الأمد مع إيران وإسرائيل وصلت إلى 25 عاما. في عام 2021، وقّعت الصين، للمرة الثانية على التوالي، اتفاقية شراكة استراتيجية بقيمة 400 مليار دولار مع إيران لمدة 25 عاما. في المقابل، وقعت اتفاقيات مع السعودية في الزيارة أخيرا، وصلت فقط إلى 30 مليار دولار لمشاريع آنية، وليست ذات بعد زمني طويل. وأخيرا، إسرائيل هي الدولة الثانية والوحيدة بعد الولايات المتحدة التي تمتلك أربع قنصليات وسفارة في الصين، وهو ما سهّل على إسرائيل تعزيز علاقاتها مع المستثمرين ورجال الأعمال الصينيين.

رابعًا، التعليم والبحث العلمي. هنا نركّز على عنصريين أساسيين: أولًا، البحث العلمي، تعدّ إسرائيل الدولة الأكثر أهمية بالنسبة للصين في الإقليم في هذا المجال، حيث تعتبر الدولة الوحيدة التي سمحت لها الصين بافتتاح جامعة لها داخلها وهي التخنيون (المعهد الإسرائيلي للتكنولوجيا والهندسة) وتأسيس برنامج مستقل بعد جامعة موسكو، بالإضافة إلى ثلاثة فروع لجامعات أخرى: تل أبيب، وحيفا، وبن غوريون. واستحوذت الصين على أبرز مراكز الأبحاث الإسرائيلية على سبيل المثال: هكسا تير، وتوغا نتوركس Toga Networks. ثانيًا، معاهد كونفوشيوس، فقد افتتحت الصين ثمانية معاهد كونفوشيوس في كل من إيران وتركيا وإسرائيل. وفي المقابل، افتتحت 15 معهدًا في عشر دول عربية فقط من ضمن الـ 22 دولة.

الافتراض بأن هناك فرصة لنا لاستبدال واشنطن بالصين، هو افتراض مبالغ فيه وشبه مستحيل في الوقت الحالي

من خلال العرض السابق، تعمل الصين على تعزيز قوة الدول الثلاث التوسعية في الإقليم على حساب الدول العربية، وذلك لعدة أسباب: تعتبر هذه الكيانات الثلاثة الأكثر استقرارًا مقارنة بالدول العربية؛ الأكثر نموًا في المجال الاقتصادي والعلمي؛ الأهم من الناحية الجغرافية؛ وعدا عن ذلك كله، من الممكن أن تستخدم الصين علاقاتها المتصاعدة مع هذه الدول من أجل التأثير على دول المنطقة العربية بشكل غير مباشر. وبالتالي، لا تحتاج الصين لممارسة دور الشرطي في الصراعات الإقليمية كما فعلت واشنطن، ولا تكون في موقع مسؤوليةٍ يفرض عليها استنزاف مواردها المادية.

لم يجلب استمرار الدول العربية في سياسة ردة الفعل على سياسات القوى العظمى إلى المنطقة العربية إلا زيادة في التبعية، والخوف المستمر من فقدان الأمن، وبالتالي، الزيادة في الممارسات الديكتاتورية والاضطرابات. المطلوب من الدول العربية أن تضع استراتيجية واضحة للتعامل مع القوى العظمى، فوضع البساط البنفسجي لشي جين بينغ، وإهمال الرئيس الأميركي بايدن لن يفيد السعودية على المدى البعيد. كما أن الاحتكام الخليجي لتقلبات الإدارات الأميركية لن يجلب لهم سوى مزيد من الشعور بعدم الاستقرار. وفي الوقت نفسه، الثقة الزائدة في أن الصين يمكن أن تلعب دور البديل، وهذا غير صحيح، فإيران شريك استراتيجي للصين (العدو الرئيسي للخليج)، تتخطّى أهميته السعودية ودول الخليج مجتمعة، ولن تمارس الصين أي دورٍ فعَال في الضغط على طهران لصالح الرياض، فهي لا تريد، أولًا. ولا تستطيع فعل ذلك حتى إن أرادت، ثانيًا. وحتى قبول الصين لبعض قرارات الأمم المتحدة لفرض عقوبات اقتصادية على إيران كان نتيجة خوف الصين من أن يُنظر إليها كمنتهك للقوانين الدولية، أو خارجة عن الإجماع الدولي وداعمة لدولة مارقة، حسب تصنيف الغرب. وأخيرًا، الافتراض بأن هناك فرصة لنا لاستبدال واشنطن بالصين. وهذا افتراض مبالغ فيه وشبه مستحيل في الوقت الحالي، فواقعيّا وعمليّا، أميركا ما زالت الأقوى عالميّا، وهي المستثمر والمالك الرئيسي لأغلب شركات النفط السعودية. كما أن السعودية والصين في الفترة الحالية تعتمدان في مسألة نقل الطاقة، وكذلك كل الدول المستوردة والمنتجة في المنطقة على الترتيبات الأمنية والعسكرية الأميركية. إضافة إلى ذلك، تعي أنظمة الخليج العربي جيدا أن استمرار حكمها مرهون بشكل أساسي بالدعم الأمني والعسكري والاستخباري من واشنطن، الأمر الذي يشكّل أولوية لهذه الأنظمة على الاقتصاد. وأخيرا، تدّعي الصين أنها لا تريد أن تمارس سياسة الهيمنة أو فرض إرادتها على الدول، وهو ما أكّده الرئيس شي في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني أخيرا. وإضافة إلى ذلك، لا تريد الصين أن تدخل في السياسات الإقليمية، وتحاول الحفاظ على مسافة معينة من جميع الأطراف وما يثبت ذلك علاقاتها المتوازنة مع الأعداء الثلاثة: إيران وتركيا وإسرائيل.

رزان شوامرة
رزان شوامرة
باحثة فلسطينية، طالبة دكتوراة علاقات دولية، جامعة شرق البحر المتوسط، قبرص الشمالية.