الصومال وموسم الهجرة إلى الشقاق السياسي
ينطبق المثل الشعبي، "عادت حليمة إلى عادتها القديمة"، على الوضع السياسي الصومالي، الملبد بكثير من موجات الفوضى وعدم الاستقرار سياسياً، فما إن تهدأ الأوضاع سياسياً في مقديشو، حتى تدور عجلة دوامة القلاقل السياسية من جديد، فمنذ ثلاثة عقود تطاول الخلافات هرم السلطة، وخصوصا التنفيدية والتشريعية، ولم تسلم الحكومات الصومالية المتعاقبة من نار الخلافات، سيما في ما يتعلق بكيفية تقاسم السلطة وتداولها بين الشركاء السياسيين. وما حصل في أروقة البرلمان الصومالي في 24 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، بعد سحب الثقة من حكومة حسن علي خيري، دليل قاطع على أن الصومال لم يتحرّر بعد من شرك الفوضى السياسية ومتاهاتها، والقفز على القوانين والدساتير. وبما أن الدستور الصومالي غير مكتمل بعد، تدور عجلة الفوضى، وتجري المؤامرات الكيدية على قدم وساق في المؤسسات الرسمية، ما سيعرقل العمل بالدستور للفصل بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية.
الأزمة الدستورية والتملص من الأعراف السياسية سمتان بمنزلة وصمة عار ترافق حياة القادة السياسيين في البلاد، فمنذ عام 2012، كان البرلمان الصومالي مشغولاً بسحب الثقة من رؤساء الحكومات، من دون وجود أسباب واضحة أو تهم تتعلق بعجز تلك الحكومات وتقصيرها عن أداء مهامها، بل تسقط تلك الحكومات لأجندات وتحقيق أغراض سياسية فقط، وتتعزّز تلك الخلافات مع قرب الانتخابات الرئاسية، إذ يتفجر خلاف في كيفية تنظيم الانتخابات، والتحالفات الداخلية ودور القوى الدولية في إذكاء الصراعات الداخلية.
الأزمة الدستورية والتملص من الأعراف السياسية سمتان بمنزلة وصمة عار ترافق حياة القادة السياسيين
لعل السبب الرئيس الذي اعتمد لطرد الحكومة الصومالية فشلها في تنظيم الانتخابات المقرّرة إجراؤها مطلع عام 2021، وعدم تمكّنها من إيصال البلاد إلى استحقاقات الانتخابات، لكن السؤال هو: هل الحكومة وحدها القاصر أم أن البرلمان جزء من المعضلة السياسية الراهنة، حيث لم يمرّر بعد قانون الانتخابات، فلجنة الانتخابات الوطنية المستقلة اتهمت البرلمانيين بالتقصير في المصادقة على تلك القوانين، فضلاً عن انقسامات بين أعضاء مجلس الشعب الصومالي.
ما لا يخفى أن خطوة إسقاط رئيس الحكومة الصومالية تدخل البلاد منعطفاً سياسياً خطيراً، بل وربما يمكن أن تذهب بسمعة الصومال التي تحققت منذ عقد ونيف، حيث تُفقد الثقة لدى الأطراف الدولية والعربية الداعمة للصومال، فالقفز على القوانين وبنود الدستور أمرٌ يشي بأن السلطة السياسية في البلاد تتطلع إلى البقاء أكثر في الحكم، وبطريقة مخالفة للدستور، الذي ينص على أن تشهد البلاد انتخابات رئاسية مرة بعد كل أربع سنوات، وتنتهي مدة فترة البرلمان الصومالي الحالي بغرفتيه، مجلسي الشعب والشيوخ (329 عضواً)، في ديسمبر/ كانون الأول عام 2020، بينما تنتهي فترة الرئيس محمد عبدالله فرماجو في فبراير/ شباط عام 2021، وبعدها يمكن أن تدخل البلاد فراغاً دستورياً إذا لم تتوفر آلية محدّدة واتفاقيات سياسية بين الشركاء السياسيين على نظام انتخابات موحد، ففكرة التمديد التي تسعى إليها السلطة الصومالية لا تحظى بتأييد المعارضة السياسية، ولا المجتمع الصومالي الذي أيد تنصيب فرماجو رئيساً للبلاد.
هل الحكومة وحدها القاصر أم أن البرلمان جزء من المعضلة السياسية الراهنة، حيث لم يمرّر بعد قانون الانتخابات؟
يعتبر المجتمع الدولي (الإتحاد الأفريقي، الإتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة الأميركية وجامعة الدول العربية) الداعم الرئيس للصومال بعد الحرب الأهلية، وهم لبنة التطور السياسي الذي شهده الصومال، وتدخلاتهم في الشأن السياسي الداخلي تكون أحياناً مفيدة، بقدر ما هي سلبية ومضرّة في أحيان أخرى، ولكن بيانات الشجب التي صدرت من مقديشو ونيروبي، عبر سفارات دول أوروبية عدة، تؤكد أن هناك ردود فعل عكسية على الرئاسة الحالية، بل إن لغة التحذيرات التي حملتها تلك البيانات تعكس مدى غضب المجتمع الدولي على عزل رئيس الوزراء، حسن علي خيري، وهو ما يحمل الرئاسة الصومالية على بذل مزيد من الجهود لإقناع حلفائها الدوليين بقرار البرلمان، سيما واشنطن التي هدّدت باتخاذ إجراءات ضد الساعين إلى عرقلة جهودها التنموية والسياسية في الصومال.
وكان من المرتقب أن تعقد الحكومة الصومالية مؤتمراً تشاورياً حول المستقبل السياسي للبلاد والاتفاق على نموذج انتخابي موحد منتصف أغسطس/ آب، لكن عزل رئيس الحكومة سيزيد طين الخلافات السياسية بين الفرقاء بلة، وربما سيعقد مشهد المفاوضات، وخصوصا من الرئيس فرماجو؛ حيث ستتعزز المخاوف والظنون بين المؤتمرين، سيما رؤساء الولايات الفيدرالية الذين يعتقدون أن الرئيس الصومالي يريد تمديد فترة حكمه من دون التفكير بمستقبل البلاد، وما أنجزه من تقدم سياسي في الفترة الماضية. واللافت أن التوصل إلى اتفاق سياسي يحدّد مصير الصومال ومساره في المرحلة المقبلة صعب المنال في الوضع الراهن، وخصوصا بعد نزع العمود الرئيس للتفاهمات بين الشركاء السياسيين.
المخرج الوحيد للمنزلق السياسي الراهن هو الاتفاق على نظام انتخابي موحد بين المعارضة السياسية ورؤساء الولايات الفيدرالية من جهة والرئاسة الصومالية من جهة ثانية، إلى جانب تشكيل حكومة ائتلاف تكون المعارضة السياسية جزءاً فيها. أما ما عداها من أجندات وسياسات فهي لعبة خطيرة في الزمن الصعب، وتجرّ البلاد إلى الهاوية مجدّداً، وتنسف جهود المجتمع الدولي الذي يسعى إلى الاستثمار في الصومال، وخصوصا ثرواته النفطية والسمكية والزراعية.
إذا لم تتفق الأطراف السياسية على حلول سياسية، لتجنيب البلاد مزيداً من الفوضى، فسيكون التدخل الخارجي أمراً لا مفرّ منه
يبذل الرئيس فرماجو جهوداً كبيرة في تنظيم انتخابات مباشرة، وتمديد فترة حكمه سنتين على الأقل، من دون أن يصل إلى آلية مشتركة مع معارضيه، الأمر الذي سيهدّد مصير الصومال ومستقبله، ويفتح نار صراعات في مقديشو، فإذا لم يوفق الرجل في تنظيم انتخابات شعبية، وفي إقناع المعارضة بتمديد فترة حكمه، فلا خيار سوى النزول لرغبة معارضيه، والذهاب إلى انتخابات غير مباشرة، لإنقاذ البلاد من أتون الفشل مجدّداً، فإذا لم تتفق الأطراف السياسية على حلول سياسية، لتجنيب البلاد مزيداً من الفوضى، فسيكون التدخل الخارجي أمراً لا مفرّ منه، كما حصل في فترة حكم الرئيس الصومالي الأسبق عبدالله يوسف (2004 - 2008)، الذي أجبر على الاستقالة من منصبه، بعد خلافات حادّة بينه وبين رئيس حكومته. وهذا السيناريو هو المتوقع، وسيكون الأسوأ بالنسبة للرئاسة الصومالية الحالية، فآخر الدواء الكي بالنار.