الصورة الأخيرة
قبل خمس سنوات بالضبط، كنت أطلب من الطبيب المناوب في قسم الإفاقة الفائقة في المشفى أن يبلغني أولا بأول بتطوّر حالة أبي الغارق في غيبوبته الأخيرة وذلك خلال ساعات الليل، وحيث داهمني التعب ولم أعد قادرةً على البقاء وقوفا أمام الباب الخارجي للقسم، بانتظار الحقيقة التي أحاول الهروب منها، أن أبي يودّع الحياة، ولكن لا تستطيع أن تحدّد متى تكون اللحظة التي سينتهي فيها كل شيء. ولذلك التقط الطبيب المناوب الذي أراد الإمعان في طمأنتي صورة لأبي الغارق في غيبوبته، وحيث تمتدّ الأسلاك والأنابيب من مواضع مختلفة في جسده شبه العاري، وأرسلها إلي عبر "واتساب".
لم تكن تلك الصورة كفيلة بأن تطمئنني على الإطلاق كما توقع الطبيب، ولكنها كانت كفيلة بأن تؤلمني، إلى درجة أنني أمضيتُ ليلتي في بكاء عارم لم يتوقف، لأني لم أتوقّع أو أتخيّل أن أرى ذلك الرجل القوي، والذي كان دائما واقفا على قدميه في أحلك الظروف وأقسى المواقف في هذه الحالة، فاليوم أراه بلا حراك وبلا حولٍ وبلا قوة. وقد كان نشطا مثابرا، ويملك القوة التي أدارت حياتي وحياة العائلة كلها، وهو يقرّر ويناقش ويروح ويجيء ويكدّ ويتعب.
كانت الصورة الأخيرة، لكنها كانت مؤلمةً إلى درجة أنني حذفتها بعد دقائق قليلة، وبحثت سريعا عن أجمل صورة لأبي، والتي التقطتُها بكاميرا هاتفي يوم نجاح ابنتي في الثانوية العامة. كان يجلس مبتسما فوق أريكةٍ في بيتي، وهكذا كانت ولا تزال هذه الصورة الباقية والدائمة، والتي عرفها القريب والبعيد عن أبي، فحتى الذين لم يعرفوه كانوا يرون صورته تلك، ويشعرون كم كان ذلك الرجل الراحل عظيما في حياة ابنته بتلك الجلسة الواثقة الوقورة.
وعلى عكس ما حرصتُ عليه كابنة تفخر بأبيها، وتصرّ على إبقاء صورته في ذهنها كفارسها الأول كما يقول علماء النفس، انتشرت قبل أيام صورة للمطرب إيمان البحر درويش وهو على سرير المرض. نشرتها ابنته فيما اختارت عنوانا مثيرا وغامضا لها. وبالمرور على العنوان المثير والغامض، وحول ما قد يكون قد تعرّض له المطرب من قمع أو تعذيب نفسي أو جسدي بعد إطلاقه أقوالا بحق النظام السياسي في مصر حاليا قبل نحو عامين؛ فالصورة مؤلمة وموجِعة، خصوصا لمن انطبعت في مخيّلتهم صور المطرب الوسيم والخجول وخفيف الظل، وحيث بدأ ظهوره في ثمانينيات القرن الماضي من خلال إحيائه أغاني جدّه فنان الشعب، سيد درويش، مجدّد الموسيقى وباعث النهضة الموسيقية في مصر.
يعبر الظهور الأخير للمطرب الذي نشرت صورته عن واقع مؤلم وصلت إليه حالته الصحية، وربما تكون هذه الصورة الأخيرة له، حيث يبدو تردّ واضح لصحته، من خلال ما يبدو عليه من هزال وفقدان للوزن، إضافة إلى علامات تقدّم السن الواضحة عليه. فيما حاول إيمان البحر درويش الإبقاء على صورته الشابة حتى آخر ظهور له، بصبغ شعره وتسريحه على نحو محبّب لمعجباته، واللواتي لم يتأثرن بتاريخ ميلاده الحقيقي، والذي يشير إلى أنه قد تجاوز الستين مثلا، بقدر إصرارهن على أنه الفتى الوسيم الذي أعلن عن وجوده من خلال أغنية "أنا طير في السما"، وبلغ قمة الرومانسية حين أطلق الأغنية التي ردّدناها، إبّان كنّا مراهقات حالمات، "ضمّيني".
حاولت وضع تخيّلات للأسباب التي دعت ابنة إيمان البحر درويش إلى نشر هذه الصورة المؤثرة والموجعة لأبيها، منها دوران الدهر، وعدم أمانه المادّي، خصوصا لأهل الفن، والإشارة إلى حال الفنانين الذين خانهم الفن وأهله، ومحاولة حصر أسماء بعض هؤلاء الفنانين تودي بنا إلى قائمة تطول. وفي النهاية، نحن أمام حالة ضعف إنساني لا نحب أن نراها على الإطلاق، ربما لأنها تذكّرنا بحالة ضعفنا القادمة لا محالة.